خطبة بعنوان (المال العام وبعض مخاطر استباحته ) للدكتور : مسعد الشايب
16 ديسمبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان (المال العام وبعض مخاطر استباحته )
للدكتور : مسعد الشايب
الجمعة 20 من ذي الحجة 1442هـ الموافق 30من يوليو 2021م
الجمعة 16 من جماد ثاني 1445هـ الموافق 29 من ديسمبر 2023م
الجمعة 28 جماد ثاني 1447هـ الموافق 19 ديسمبر 2025م
أولا: العناصر:
1. الأمر بتحري الحلال في كل شئوننا، وبيان أن استباحة المال العام من الحرام.
2. سبعةٌ من مخاطر استباحة المال العام.
3. الخطبة الثانية: من فوائد ذكر الله (سبعةٌ من فضائل تحري الحلال بوجه عام).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، هدانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، أمرنا بالطيبات وأبان لنا طرقها، ونهانا عن الخبائث وحذرنا سوء عاقبتها، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله صادق الوعد الأمين، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين،وبعد أيها الأحبة الكرام:
(1) ((الأمر بتحري الحلال في كل شئوننا، وبيان أن استباحة المال العام من الحرام))
فقد دعانا القرآن الكريم والسنة النبوية في كثير من نصوصهما إلى تحري الحلال في مطعمنا ومشربنا وملبسنا وجميع معاملاتنا، وحذرانا من اكتساب الحرام فيها، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ*إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة:169،168]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[البقرة:172]، وقال (صلى الله عليه وسلم): (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}…)(رواه مسلم)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ..)( اللفظ لمسلم)، فإذا كان اتقاء الشبهات استبراء للدين والعرض، فاتقاء الحرام من باب أولى، وقال (صلى الله عليه وسلم): (طَلَبُ الْحَلَالِ جِهَادٌ)(مسند الشهاب).
وهكذا نصحنا سلفنا الصالح (رضوان عليهم)، قال أحد التابعين الأجلاء: (طَلَبُ الْحَلَالِ مِثْلُ مُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَاتَ عَيِيًّا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ رَاضٍ)( شعب الإيمان)، وقال محمَّد بن واسع (من صغار التابعين ت123هـ) لمالك بن دينار (من صغار التابعين ت130): (مَالَكَ لَا تُقَارِعُ الْأَبْطَالَ؟). قال: (وَمَا مُقَارَعَةُ الْأَبْطَالِ؟). قال: (الْكَسْبُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ)(شعب الإيمان).
ومن الطرق المباشرة للكسب الحرام: الاعتداء على المال العام، وهو المال الموقوف على مصالح الناس، كالطرق العمومية، والشوارع والطرقات، وكالترع والمصارف، وشبكة الكهرباء، ودور العبادة، والمدارس، والمعاهد، والجامعات، والمستشفيات، ووسائل النقل والمواصلات، والأشجار، والأنهار، والجبال، والشواطئ…إلخ، وكل ما ينتفع به الناس.
والاعتداء على المال العام له صور كثيرة منتشرة في المجتمعات والدول: كمن يعتدون على حرم الشوارع والطرقات والطرق العمومية، وحرم الترع والمصارف، وكمن يسرقون التيار الكهربائي، وكمن يسرقون القمح من الصوامع العامة، وكمن يقومون بالاستيلاء على أراضي الأوقاف، ونهب وسرقة أراضي الدولة، ويقومون بالبناء عليها، أو استغلالها في مشاريع خاصة بهم…الخ، كذلك الهروب والتزويغ من الأعمال المنوطة بنا، وعدم أدائها على الوجه الأكمل، وهذا يعدُّ أكلًا للمال العام المدفوع من أجل قضاء مصالح الناس، فالحكومة تدفع رواتب لآلاف بل لملايين من الموظفين للقيام بمصالح ومنافع عامة لخدمة المواطنين، وكثير من هؤلاء الموظفين لا يتقون الله في عملهم ولا يؤدون الأعمال المطلوبة منهم، ولو أدوها لا يؤدونها على الوجه الأكمل، سلّ عن المدرس الذي لا يشرح في مدرسته حتى يلجأ الطلاب للدروس الخصوصية، سلّ عن أئمة وخدم المساجد الذين يهملون في بيوت الله، سلّ عن موظفي الإدارات والوحدات المحلية، وكثير من موظفي وزارة الثقافة، وكثيرٌ من موظفي وزارة الشباب…إلخ ممن لا يذهبون إلى أعمالهم، كل ذلك يعدُّ اعتداء على المال العام وأكلًا له، ولهؤلاء جميعا أقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ)(مسند أبي يعلى).
والشريعة الإسلامية في قرآنها وسنة نبيها قد حرما الاعتداء على المال العام وأكله بغير وجه حق: قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[آل عمران:161]، ويقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ كَانَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). فقام رجل أسود من الأنصار، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: (وَمَا لَكَ؟). قال: سمعتك تقول: كذا وكذا، قال: (وَأَنَا أَقُولُهُ الْآنَ، مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ، فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى)(رواه مسلم).
(2) ((سبعةٌ من مخاطر استباحة المال العام))
والشريعة الإسلامية قد حرمت الاعتداء على المال العام لما فيه من الأضرار والأخطار الدنيوية والأخروية:
فمن مخاطر استباحته، ومن مخاطر التعدي عليه، أنه يحمل المعتدي مظالم كثيرة ويعرضه للإفلاس يوم القيامة، فالاعتداء على المال العام اعتداءً على جميع أفراد المجتمع والوطن، اعتداءً على الأمة كلها، و مِنْ ثَمَّ فإن عليه إثمُ كلِّ مَنْ له حق في هذا الأموال والممتلكات العامة، وإذا كانت الشريعة الإسلامية أمرت بقطع يد من سرق فردًا واحدًا إذا كان المسروق في حرز مثله، وبلغ ربع دينار فصاعدًا، ولم يكن الزمن زمان مجاعة، فكيف بمَنْ يسرق الأمة وينهب ويبدد ثرواتها؟! كيف تكون صورته في الدنيا وعقوبته في الآخرة؟، قال (صلى الله عليه وسلم): (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟). قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)(رواه مسلم)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)(رواه البخاري).
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه، أنه ينقص إيمان المرء، وقد يعرضه للكفر والعياذ بالله، قال (صلى الله عليه وسلم): (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً (المال المأخوذ قبل القسمة)، يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(متفق عليه)، قال شراح الحديث: أي: يفارقه الإيمان عند مقارفة هذه الذنوب وارتكابها، وينزع نور الإيمان من قلبه، فلو مات المعتدي على تلك الحال، فقد يعرضه للموت على الكفر والعياذ بالله.
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه، أنه يعرض صاحبه للعن والطرد من رحمة الله في الدنيا والأخرة، قال (صلى الله عليه وسلم): (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ)(متفق عليه)، فإذا كان سارق البيضة ملعونٌ ومطرودٌ من رحمة الله؛ فما بالنا بسارق الفدادين، ومنتهب الملايين، ومسخر المال العام لخدمته وخدمة أقاربه ومعارفه…الخ.
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه، أنه يعدّ خيانة للوطن، وضربًا لاقتصاده، وهذا له وزره، وعليه أثمه، فنحن مأمورون بمحبة الأوطان، وبنائها الأوطان، والمساندة لحكومتها وقيادتها وشعبها، وخير مثالٍ لذلك ما قام به سيدنا عثمان بن عفان (رضي الله عنه) من شراء بئر رومة من اليهود، وجعله صدقة لله (عزّ وجل) حتى لا يتحكم اليهود في مصدر شرب المسلمين. (رواه البخاري)، وقيامه بتجهيز جيش العسرة بثلاثمائة بعير بأحلاسها (كساء رقيق يجعل تحت البردعة) وأقتابها (جمع قتب بفتحتين وهو رحل صغير على قدر سنام البعير وهو للجمل كالإكاف لغيره)، وقيامه بتوسعة مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) (رواهما الترمذي)، والنماذج في ذلك كثيرة، لا يتسع المجال لسردها، فهل المعتدي على المال العام محبًا لوطنه؟ وكيف يقارن فعله بفعل سيدنا عثمان (رضي الله عنه)؟.
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه، أنه يمنع من إجابة دعاء صاحبه والقائم به، فعن سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم): (يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)(المعجم الأوسط للطبراني).
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه الأخروية، أن صاحبه يفضح به على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، ويا لها من فضيحة، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات يوم، فذكر الغلول، فعظمه وعظم أمره، ثم قال: (لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ)(اللفظ لمسلم).
ومن مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر التعدي عليه الأخروية أيضًا، أن صاحبه يطوق به ويعلق في رقبته يوم القيامة، ويزج به في نار جهنم، والعياذ بالله، قال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)(متفق عليه)، وبعد أن فتح الله (عزّ وجلّ) على النبي (صلى الله عليه وسلم) والصحابة يوم خيبر، فلم يغنموا ذهبا ولا ورقا، وإنما غنموا المتاع والطعام والثياب، سرق عبدٌ يقال له: مِدْعَم من الغنائم، فبينما هو يحط رحل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذ جاءه سهم عائر ، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا). فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي (صلى الله عليه وسلم) بشراكٍ أو بشراكين، فقال: هذا شيء كنت أصبته. فقال (صلى الله عليه وسلم): (شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ)(متفق عليه)، وقال (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ)(رواه البخاري)، ويقول (صلى الله عليه وسلم) أيضا: (…يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ)(رواه الترمذي)
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له.
(الخطبة الثانية)
((التفكك الأسري، وأسبابه))
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صلّ عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد رأينا بعضًا من مخاطر استباحة المال العام، ومن مخاطر استباحة المال العام التفكك الأسري؛ لأنه إطعام من حرام، وتغذية بالحرام، فلا يبارك الله في أسرة غذيت من حرام:
والتفكك في لغتنا العربية: مأخوذ من مادة (ف ك) التي تعني الفصل، والتخليص، والإطلاق، والانفراج، والإزالة، تقول: فككت الأسير، أي: أطلقت سراحه، وتقول: فككت الرهن، أي: خلصته، وهكذا.
والتفكك الأسري يعني: فشل أعضاء الأسرة جميعًا، أو أحد أعضائها في القيام بدوره المنوط به، مما يؤدي إلى التباعد بين أعضائها، أو على الأقل ضعف العلاقات بينهم، مما يؤدي إلى حدوث التوترات، وانفراط عقد الأسرة.
أو هو: عبارة عن الأزمات والمشاكل التي تستولي على الأسرة، فتؤدي إلى تمزقها، وانفصال أعضائها عن بعضهم البعض.
أو هو: ضعف ووهن، وسوء توافق وتكيف، وانحلال يصيب الروابط الأسرية بين الزوج وزوجته، وبين الوالدين وأولادهما، وبين الأولاد وبعضهم البعض، فالتفكك الأسري منه ما هو جزئي، ومنه ما هو كلي، وعلماء الاجتماع يقولون: إنه يمر بعدة مراحل، وللتفكك الأسري أسباب، أهمها:
1ـ مخالفة وصايا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخصوصًا فيما يتعلق بأمر الزواج، فاختيار الزوجة ضعيفة الإيمان يؤدي إلى: الجهل بحقوق زوجها عليها، وجهل مكانته بالنسبة إليها، وجهل أنه أعظم الناس حقًا عليها بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظم حقًا من أبيها وأمها، وجهل أنه سببٌ في دخولها الجنة أو النار…الخ.
واختيار الزوج ضعيف الإيمان يؤدي إلى: جهله بحقوق زوجته عليه من حسن المعاشرة والمعاملة، وجميل التحمل لها، والتطيب والتزين لها، والإنفاق عليها، والرعاية والتربية لأولاده…الخ.
قال صلى الله عليه وسلم ناصحًا الشباب المقبلين على الزواج: (…فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ…)(متفق عليه)، وينصح أولياء أمر البنت والمرأة قائلًا: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ؟. قَالَ: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ). ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه الترمذي).
فالاختيار المخالف لوصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزواج يؤدي إلى تفاقم المشاكل الأسرية، ويؤدي إلى ما نراه اليوم على من التفكك الأسري.
2ـ ضعف التحلي والتمسك بالقيم والأخلاق اللازمة لاستمرار الحياة الزوجية، من التحلي بالصبر، والحلم، والعفو، والصفح في مواجهة صعوبات الحياة الأسرية، والمشاكل الزوجية الناشئة من نوازع النفس البشرية وغيرها.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)(رواه مسلم)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ، فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ، وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا، كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا)(اللفظ لمسلم).
وما يطالب به الزوج من التحلي بالحلم والصبر…الخ تطالب به الزوجة، وانظروا لهذا النموذج الرائع من الصبر على شظف العيش من صحابية جليلة، فعن أسماء بنت أبي بكر (رضي الله عنهما) قالت: (تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ، وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَسْتَقِي المَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عَلَى رَأْسِي، وَهِيَ مِنِّي عَلَى ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ…)(متفق عليه).
3ـ انشغال الوالدين أو أحدهما، عن الأبناء، وعن القيام بالدور المنوط به، فالقوامة، وقيادة سفينة الأسرة شأن الرجال، ورعاية بيت الزوجية، والقيام على شئونه، وإصلاح أموره من شأن النساء، فلو قام كل واحد في الأسرة بدوره الذي حددته له الشريعة الإسلامية؛ لاستقرت الأسرة المسلمة، وما رأينا تفككا فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ)(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)(رواه أبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا…)(متفق عليه).
4ـ كثرة المشاحنات الزوجية، وغياب الحوار الأسري، فمن أهداف الحوار الأسري، ومقاصده تضييق هوة الخلاف بين أفراد الأسرة، وتقريب وجهات النظر، وبالحوار الأسري نتعرف على أطروحات الطرف الآخر، ووجهات نظره وحججه في القضايا التي هي موضوع الحوار، في مقابل تعريفه بما يغيب عنه أو يلتبس عليه من أصول ديننا ومحاسنه، فهو وسيلة سلمية يسيرة لتبادل الآراء وتلاقح الأفكار وصولا إلى رأي سديد يجتمع عليه الناس أو لتقريب وجهات النظر وتفهُّم المواقف.
5ـ عدم عدل الوالدين بين أبنائهما، والتفرقة بينهم في المعاملات المادية والمعنوية؛ فذلك يجلب الشقاق ويزرع الحقد والغل والحسد والكراهية بينهم، ويسبب قطيعة الرحم بعد ذلك، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟). قَالَ: لَا، قَالَ: (اتَّقُوا اللهَ، وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ). فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ.(اللفظ لمسلم).
6ـ ثورة الاتصالات الحديثة، وكثرة سائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وعدم ترشيد استخدامها، وهذا من أعظم فتن الشيطان اليوم، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء:53]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، أَوْ فَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ أَنْتَ)(اللفظ لأحمد).
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر، وفي رواية: أوسط أيام التشريق، ـ ولعل الوصية تكررت ـ فقال: (…أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ (قنط) أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ…)(رواه أحمد)، (في التحريش) أي: في إيقاع العداوة بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها.
7ـ انفصال الوالدين بالطلاق، فانفصالهما هو أعظم أسباب التفكك الأسري، وأعظم مظاهره أيضًا، ويؤثر بالسلب على بقية أفراد الأسرة، فهو تسبب في ضياع الأولاد، ويؤثر تأثيرًا سيئًا عليهم، بل وعلى المجتمع ككل، ولذا كان الأصل في الطلاق: أنه محظور لا يباح إلا لحاجة، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء، وهو الرأي المختار عندي، والراجح في نظري؛ لقوة أدلته، وضعف أدلة الرأي الأخر.
فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم.
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنّا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب