العلماء العجم وأثرهم في بناء صروح المعرفة الإسلامية


بقلم الشيخ : صالح علي صالح الفقي
موجه عام بوعظ الأزهر الشريف

لم تكن الحضارة الإسلامية صفحة يكتبها العرب وحدهم، ولا نورا يشعله قوم دون قوم؛ بل كانت مشعلا ألقاه الوحي في يد الأمة جمعاء، فتداعت إليه العقول من كل أرض، وجاء الأعاجم يحملون إلى هذا النور زيتا من إخلاص ووقودا من همة، حتى غدت المكتبة الإسلامية بفضلهم حدائق مزهرة تتعانق فيها أغصان الأجناس واللغات، كحديقة وارفة ماؤها عذب، وثمرها مختلف ألوانه يسر الطالبين.

(وعلى سبيل المثال لا الحصر إليك بعض هذه النماذج السامقة)

في مدرسة الحديث الشريف.

قام رجال من الأعاجم كأنما اصطفاهم الله لحراسة حديث نبيه:
كالبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، والرَّامَهُرْمُزِيُّ…

وقفوا على أبواب الرواية وقوف الحراس على الثغور، ينفون عن السنة تحريف الغالين وانتحال المبطلين.

وفي بستان التفسير، حيث تتلاقى البلاغة بالإيمان، لمع رجال لم يرثوا العربية دما، لكنهم ورثوها عشقا:

كالطبري، والزمخشري، والقرطبي، والرازي، والبيضاوي، والألوسي، وابن كثير، والنسفي…

كل منهم حمل الآية بين يديه كالجوهرة، يقلبها على وجوهها حتى تتلألأ في قلوب الخلق.

وفي ميدان العربية، لغة الوحي، وقف العجم موقف المخلصين؛ فرسموا قواعدها، ونقحوا أوزانها، وأقاموا بنيانها على صخر من العقل والذوق:
كعبد القاهر الجرجاني، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وسيبويه، وابن جني، والزمخشري، والفراء، والسيرافي، والرضي الاستراباذي…

هم من أسسوا البنية اللغوية، واستنبطوا منها مواطن الجمال والجلال، كما حافظوا على الإيقاع الداخلي الذي ما زالت العربية تتغنى به عبر القرون.

وفي محراب الفقه، حيث يتطهر العقل قبل أن يجتهد، نهض رجال من غير العرب يؤسسون للفقه قواعده ويهذبون مناهجه:

السرخسي، والمرغيناني، والجويني، والغزالي، والبيضاوي، والنسفي، والنووي…
هؤلاء هم بناة طرق الاستنباط، وأصحاب المدارس التي ظلت أنوارها تمتد في الأمة قرونا طويلة.

وفي الفلسفة والمنطق والحكمة، حيث تتلاقى أنوار العقل مع هدي الشرع، ارتقى رجال أعاجم حملوا مشاعل التفكير:

كالفارابي، وابن سينا، وابن مسكويه، والسهروردي، والفخر الرازي، ونصير الدين الطوسي…

هؤلاء وغيرهم فتحوا آفاقا جديدة للعقل الإسلامي، وقرّبوا بينه وبين فلسفات الأمم.

وفي الطب والكيمياء والعلوم الطبيعية وقف غير العرب سادة التجربة والملاحظة:
كالرازي، وابن سينا، والبيروني، والزهراوي، وجابر بن حيان، وابن النفيس، وابن البيطار…
فأسسوا علوما ما زالت البشرية إلى اليوم تستضيء بها، وترجع إلى كتبها في الطب والصيدلة والكيمياء.

وفي سجل التاريخ والسير، نهض رجال أعاجم يصوغون ذاكرة الأمة بميزان دقيق:
كالطبري، والبيهقي، وابن إسحاق، والبلاذري، والمسعودي، والذهبي…

دوّنوا الحوادث والوقائع، وخلدوا أسماء الرجال والأيام ليبقى الماضي نبراسا للمستقبل.

وهكذا تعيش الأمم بالصادقين المخلصين، لا أبناء النسب.

هكذا يصطف الأعاجم مع العرب في موكب واحد، يتزاحمون في سلالم العلم، كأنما تآخت أرواحهم قبل أن تتعارف ألسنتهم.

لقد أثبتوا أن الوحي إذا خالط القلوب صيّرها قبائل من نور، وأن خدمة الدين لا تنال بالميراث، بل بالعطاء والصدق، مهما اختلفت الأرض واللسان.

والحمد لله رب العالمين القائل في كتابه:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
الحجرات: 13.