سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر بقلم الأستاذ : مهدى صالحى
إنّ القراءة المقاصدية هي تلك المقاربة الإسلامية العقلية التي تؤسس حيوية ذات منحى عملي تنويري يقطع مع الرؤى الضيقة حول التجربة الصوفية كالادّعاء بأنّ التصوف هو الانحراف عن التشريعات والتكاليف الثابتة بالنصوص القطعية وعن المسؤولية الحضارية وإهمال السنن الكونية.
ثم إن هذه المقاربة المقاصدية تبحث في علل الشريعة والأحكام التعبّدية المقترنة بالتعليل المصلحي المتمثل في القرب من الله والتخلّق بأخلاقه ففي هذا القرب تجلّ للصفاء الروحي من آفات النفس الأمّارة بالسوء .
ويرمي التأصيل المقاصدي إلى ضبط الممارسة الصوفية وفق منهاج النبوة بالإبانة عن طبيعة ذلك الاعتكاف النبوي بغار حراء على غرار نزول الوحي وهذا الاعتكاف في حقيقته بمثابة الوقفة التأمّلية ذات النزعة العرفانية الذوقية لتلقّي الفيوضات الربّانية وتغذية الضمير برحيق المحبة الإخلاص .وهذه المقامات هي مقاصد أصلية شرعية من أحكام العبادات تعكسها هذه الممارسة النبوية التأمّلية التي هي ضرب من التعبّد القلبي ،حيث أطلق على هذا الضرب في الاصطلاح العلمي “الذكر الصامت “وهو الاندماج بالوحدة مع النواميس التكوينية المطّردة واللامتناهية بالتذكّر تارة وبالتفكّر طورا تنزيلا عمليا لذلك البعد الاستكشافي العقلي لبديع صنع الله الذي أتقن كلّ شيء قال تعالى:”ويذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ماخلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.”
ولذلك تمثّل هذه اللحظات العرفانية التأمّلية ذلك الجسر الذي يصل العابد بالمعبود مصداقا لقوله ﷺ:أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ففي إطار هذا السياق التأمّلي العرفاني فإنّ التفاعل الروحاني المباشر مع الذات الإلهية يكون باستشعار الرقابة الذاتية لأثرها على الفعل الأخلاقي والتجديد الإيماني حتى ترتقي النفس الإنسانية من دنس الوجود المادّي إلى عالم الحقيقة الكبرى وهي الرقابة الإلهية حيث قال ﷺ:تأمّل ساعة خير من عبادة سنة.
إن الوقفة التأمّلية تحرّر الضمير الإنساني من رجس التشهّي المحرّم لأن في التشهّي مفاسد تتعارض مع مقاصد التشريع الضرورية لاسيما مقصد حفظ العقل وهو مصلحة ضرورية يكفلها التشريع بدعوته إلى النشاط العقلي البنائي ومن خلال حثّه على القراءة الكونية تأسيسا لرؤية حضارية في الفضاء الإنساني المعاصر قوامها المقاربة الأخلاقية المقاصدية التي عُلّلت بها الشريعة وتلتقي مع دلالات التصوف الذي يرنو إلى تزكية الجوهر من كل المفاسد بتفعيل مقصد الإخلاص في القول والفعل وهو مقصد أصلي قطعي متأصّل في الأوامر والنواهي بما أن الأحكام التكليفية دقّها وجلّها وكلّياتها وجزئياتها تقترن من جهتي الوجود والعدم بمصلحة كبرى وهي العبودية لله وحده اختيارا مثلما هي حتمية اضطرارا .ولذلك فإن هذا التأصيل المقاصدي يتماهى من حيث المبدأ مع المنزع الصوفي.