“العقوق بعد الموت” حين يُطعن الوالدان في قبريهما بلسان ولدهما
1 أكتوبر، 2025
بناء الأسرة والمجتمع

بقلم : محمد نجيب نبهان كاتب وناقد و باحث تاريخي
لو أن للأرض أن تتكلم لبكت على جريمة أشد فظاعة من القتل، وأبشع من السرقة، وأقسى من الغدر، إنها جريمة العقوق بعد الموت، حين يجرؤ إنسان أن يحوّل لسانه إلى خنجر يغرسه في عرض أبيه أو أمه بعد أن صارا بين يدي الله، عاجزين عن الدفاع، مقيدين بالكفن، محبوسين تحت الثرى. أي قسوة هذه التي لا تعرفها الوحوش في غاباتها؟ وأي مأساة هذه التي لم تكتبها التراجيديات الكبرى في أسفارها؟ إنها المأساة التي تجسّد انهيار كل قيمة، وانطفاء كل نور، وانسلاخ المرء من إنسانيته وفطرته معًا.
إن القرآن حين تحدث عن برّ الوالدين لم يجعل ذلك توصية عابرة أو فضيلة من الفضائل، بل جعله فريضة من فرائض الإيمان، وقرنه بتوحيده جلّ وعلا، فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. هنا لا نجد مجرد أمر، بل نجد قضاءً محكمًا، وحكمًا إلهيًا نافذًا، يضع الوالدين في مرتبة بعد الله مباشرة. وحين نزلت هذه الآية ارتجف لها قلب كل مؤمن، لأن فيها معنى القَسَم والعهد، ومعناها: كما أنك تعبد الله وحده، فعليك أن تحسن إلى والديك بلا قيد ولا شرط. فما بالنا اليوم نرى من يقطع هذا العهد، وينقض هذا الميثاق، لا في حياتهما بل بعد موتهما؟!
ولم يكن هذا المعنى مجرد توجيه عام، بل فصّله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو داود: جاء رجل يسأل: يا رسول الله، هل بقي من بر والديّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: «نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما». هنا يقف القارئ أمام لوحة كاملة: البر لا ينتهي بالموت، بل يبدأ مرحلة جديدة، فإذا رحلا انقطع عملهما، وبقي ولدُهما أملهما الأخير. فإذا بدل الدعاء باللعن، والاستغفار بالسباب، والصدقة بالتشهير، كان بذلك خائنًا للعهد، ناكثًا للميثاق، عاقًا بعد الحياة كما كان عاقًا في الممات.
وقد قال النووي في شرح صحيح مسلم: من تمام البر ستر عيوب الوالدين بعد وفاتهما وذكر محاسنهما، ومن كشف عيوبهما أو انتقص منهما فقد جمع بين العقوق وقلة المروءة. فما أقسى أن يُحرم الوالدان من حق الدعاء بعد موتهما، بل يُصبّ عليهما اللعن صبًّا من أفواه من ربّوهما! وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: من أفشى عيب والديه بعد موتهما فقد ارتكب كبيرة تضاهي الكبائر، إذ الواجب ستر الميت وصيانة عرضه. وهنا يتجسد المشهد الدرامي: جثة باردة تحت التراب، وابن فوق التراب لا يكتفي بترك الدعاء، بل ينزل عليهما بحجارة كلماته، يكسّر بها عظامهما المعنوية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيًا» (رواه أبو داود). فإذا كان كسر العظم في التراب ككسره في الحياة، فما بالنا بتمزيق العرض والكرامة؟ إنها جريمة مضاعفة.
الغزالي في إحياء علوم الدين رسم صورة مأساوية لهذه الحال، فقال: الميت انقطع عمله، فلم يبق له إلا ما يهدى إليه من دعاء أو صدقة، فإذا بدل الولد الدعاء باللعن فقد أفسد رجاءه، وأغلق باب رحمته. أي مشهد أوجع من أب أو أم ينتظران من ولدهما في البرزخ كلمة طيبة، فيصلهما صوت قاسٍ يصفهما بالظلم والجحود؟! أي لوعة أعظم من أن يمدّ الميت يده إلى السماء مترقبًا رحمة، فيجده ابنه وهو يلوّح له باللعنة؟ إنها دراما لا تحتملها القلوب الحية، مأساة تذيب صلابة الصخور، لكن قلب العاق قد تحجّر فلا يشعر.
أما القرطبي فبيّن في جامع أحكام القرآن أن العقوق من الكبائر، ويدخل فيه من ترك الدعاء للوالدين بعد موتهما، أو أساء إليهما بذكر السوء. وهذا القول يفتح بابًا للحديث عن طبيعة العقوق: إنه لا يقتصر على الأفعال الظاهرة، بل يشمل الأقوال والإشارات والخواطر، بل حتى الصمت عن الدعاء يعد عقوقًا. فكيف بمن أضاف إلى هذا الصمت كلمات السوء والتشهير؟ لقد جمع الشر كله في لسانه.
وابن تيمية حين تحدث في الفتاوى الكبرى قال: لو ظلم الوالدان ولدهما فظلمهما لا يبرر عقوقهما، لأن الله عدل يجازي المظلوم، أما الولد العاق فحسابه معلق بعقوقه، وهو أعظم إثمًا مما ظُلم. وهنا تتجسد المأساة: العاق يتذرع بأنه مظلوم، وأن أبويه قصّرا في حقه، فنقول له: ظلم الوالدين إن وقع، فحسابه عند الله، أما عقوقك أنت، فهو ذنب جديد لم يُغفر لك، بل جريمة كبرى لا عذر فيها.
وهكذا نرى أن السلف قد أجمعوا على أن العقوق بعد الموت قمة الجحود، لكن المأساة لا تقف هنا، بل تمتد لتشكل لعنة تتوارثها الأجيال. فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفّوا تعفّ نساؤكم. وكأنها قاعدة أزلية: من برّ والديه وجد برًّا من أبنائه، ومن عقّ والديه سلّط الله عليه أبناءً يعقونه. بل إن عقوبة العقوق تتجسد دراميًا في صورة مأساوية: عاق يسب أبويه بعد وفاتهما، ثم يُدفن هو، فيأتي أبناؤه من بعده ليغتابوه، وليجحدوا كل ما صنع لهم، فيتحقق فيه قول الله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]. فما أعجب عدل الله! وما أوجع العقوبة حين تأتي في صورة مرآة يرى فيها العاق نفسه، وقد انعكست صورته في أبنائه.
لقد جاء في المستدرك للحاكم: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات». وهذه العجلة قد تكون في ذلّ الناس له، أو في رزق ممحوق، أو في أولاد يردّون عليه سهمه، فيصيح باكيًا: يا حسرتا! أنفقت عمري عليهم، فإذا بهم يلعنونني كما لعنت والديّ! إنها العدالة المأساوية التي تجعل الدنيا مسرحًا لرؤية العقوق متكررًا.
تصوّروا المشهد: جنازة تُحمل على الأعناق، والناس يلهجون بالدعاء، إلا أبناء العاق، يقفون عند القبر، ينظرون إلى التراب وهم يتهامسون: “لقد كان ظالمًا، قاسيًا، لم يفعل لنا شيئًا”، فيردّدون ما ردّده هو من قبل على أبويه! مشهد يبعث القشعريرة في الأبدان: الأب يبكي في قبره من لعنات أبنائه، كما بكى أبوه من لعناته قبل عقود. إنها مأساة الأجيال، حيث يصبح العقوق لعنة تتوارثها الدماء، وعذابًا يسري في العروق، ما لم يقطعها ولد بار يوقف السلسلة بالدعاء والرحمة.
وما يزيد هذه المأساة فظاعة أن الشرائع كلها قد جرّمت هذا الفعل، ففي التوراة: “ملعون من يسب أباه أو أمه”، وفي الإنجيل: “من يسب أباه أو أمه فليمُت موتًا”، وفي الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (حديث 2551): «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين». فإذا كان العقوق في الحياة أكبر الكبائر، فكيف بالعقوق بعد الموت؟
الخاتمة العملية: أبواب البر بعد الموت
حتى لا يُترك الناس في ظلمة، بيّن الشرع أبواب البر بعد الموت، وهي كثيرة، لكنها يمكن تلخيصها في أعمال جليلة:
الدعاء لهما كما أمر الله: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
الصدقة الجارية عنهما: مسجد، بئر، كتاب، علم نافع.
الوفاء بوصاياهما وديونهما.
صلة أرحامهما التي لا توصل إلا بهما.
إكرام أصدقائهما ووفاء عهدهما.
ذكرهما بخير في المجالس والدفاع عن سمعتهما.
إهداء ثواب الأعمال الصالحة لهما.
هذه الأبواب ليست نوافل، بل هي امتحان البر الحقيقي. ومن تركها فقد قصّر، ومن استبدلها بالعقوق فقد ارتكب جريمة كبرى، وسلّط الله عليه أبناءً يعقونه، ويجعلون قبره مسرحًا للسباب كما جعل هو قبر والديه. إنها دراما العدالة الإلهية، حيث تنعكس أفعال العبد في ذريته، ويذوق من نفس الكأس التي أذاقها لوالديه.