د. إسلام عوض يكتب: هل رضينا بالله ربًا؟!
29 سبتمبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الدكتور إسلام عوض مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية
إن الإيمان ليس مجرد كلمة تُقال باللسان، بل هو حالة قلبية راسخة تُترجم إلى أقوال وأفعال، وأول وأجلّ درجات هذا الإيمان هو أن نحقق في أنفسنا الرضا التام بالله ربًا. هذا الرضا ليس ادعاءً، بل هو إقرار عميق بأن الله، عز وجل، هو الخالق، المالك، المدبر، وأن تدبيره هو الخير المطلق لنا، حتى فيما يبدو لنا نقصًا أو شقاءً.
وعندما يرضى العبد بالله ربًا، فإنه يرضى بكل ما قسمه الله له. يرضى بالرزق المادي الذي آتاه، والصحة التي وهبه، والزوجة والأبناء، والوظيفة التي يعمل بها، وبالعلم الذي حصله، وبالشكل الذي خلقه الله عليه، بل ويرضى بالعقل الذي أودعه فيه.
وهذا الرضا هو صمام الأمان الذي يواجه به العبد كل الضغوط الحياتية والمشكلات اليومية، بل والعالمية أيضًا؛ لأن من أيقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، عاش مطمئنًا، ولكن بشرط أن يأخذ بالأسباب الشرعية التي حددها وأباحها الله له.
في مقابل هذا الرضا العميق من العبد، يتحقق وعد الله وكرامته، فيكون الجزاء الأعظم: رضي الله به عبدًا.
*العبودية لله كرامة ما بعدها كرامة*
العبودية لله ليست قيدًا أو ذُلًا، بل هي قمة الشرف والعزة؛ هي كرامة ما بعدها كرامة؛ فيكفيك شرفًا أنك تُنسب إلى خالق الكون ومالكه، فتكون عبدًا للرحمن، وهذا المقام العظيم لا يناله إلا من صدق في عبادته وإنابته ورضاه.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى صفات هؤلاء العباد الذين اصطفاهم، فذكرها في كتابه الكريم ليجعلها لنا منهاج حياة، فقال تعالى في سورة الفرقان:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا))
*مفتاح تحقيق معنى العبودية*
تحقيق معنى العبودية في النفس يمر عبر فهم وتطبيق هذه الصفات الكريمة:
“وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا”: هذه أول صفاتهم، وهي تعبر عن التواضع والسكينة والوقار في الحركة والسلوك. لا يمشون بخيلاء أو كبر، بل بتذلل لله وحده، وهذا التواضع يترجم إلى لين في التعامل مع الخلق.
“وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا”: هذه الصفة تعكس الحلم وضبط النفس. لا يردون الإساءة بالإساءة، ولا يقابلون الجهل بالعنف أو السباب. “قالوا سلامًا” تعني أنهم يسلمون من الدخول في لغو الجاهل، ويتركونه بسلام، وهذا قمة الحكمة.
“وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا”: هذه هي صفة القرب والعبادة الخالصة. إنهم لا يكتفون بفرائضهم، بل يجتهدون في قيام الليل، يجمعون بين الذل لله في السجود والعزم في القيام، دليلًا على يقظة قلوبهم.
“وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا”: هذه الصفة تعبر عن الخوف من الله والرجاء فيه. مع كل هذه العبادات، لم يأمنوا مكر الله، بل ظلوا يدعون بخوف وتضرع، علمًا منهم بأن العذاب “غرامًا” أي لازمًا ملاصقًا غير مفارق لمن يستحقه.
الاستقامة المالية والأخلاقية: أسس العبودية
بعد الاستقامة القلبية والسلوكية والعبادية، تنتقل الآيات لتفصل لنا الاستقامة المالية والأخلاقية التي هي صمام أمان المجتمع:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾: هذه قاعدة الاعتدال والتوازن المالي. فعباد الرحمن يبتعدون عن طرفي النقيض: فلا إسراف يؤدي إلى التبذير وضياع المال في غير وجه حق، ولا تقتير (بخل) يؤدي إلى تضييق على النفس والأهل؛ إنهم يسيرون على القوام، وهو الطريق الوسط المستقيم، الذي يحفظ المال ويحقق الكفاية.
﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ): هذه هي ركائز صيانة العبادة والأخلاق، حيث يحرص عباد الرحمن على:
التوحيد الخالص: فلا يشركون بالله شيئًا وهذا هو (أجلّ الكبائر)؛ والشرك هنا نوعان:
*الشرك الأكبر* (الجلي): وهو أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وهو أيضًا صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله، كدعاء غيره أو الذبح لغيره، وهو المخرج من الملة.
*الشرك الأصغر* (الخفي): مثل ما يتسرب إلى الأعمال من نيات غير خالصة لله، وأشهر صوره الرياء، كأن يفعل الإنسان العبادة ليراه الناس ويمدحوه، أو أن يظن المرء أن هناك مخلوقًا يستطيع أن ينفعه أو يضره، وينسى أن الله هو الفاعل الحقيقي لكل شيء، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم: “أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر”.
*صيانة النفس*
فلا يقتلون النفس المعصومة إلا إذا أوجب الشرع ذلك (بالحق)، تأكيداً على قدسية الحياة.
*صيانة العرض*
يتجنبون الزنا وكل ما يؤدي إليه، حفظاً للأعراض والنسل وسلامة المجتمع.
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾: تختتم الآيات بتهديد شديد لمن يرتكب تلك الكبائر بالعذاب المضاعف والذل (مهانًا)، لكنها تفتح باب الأمل الواسع بـالتوبة الصادقة التي يتبعها الإيمان والعمل الصالح.
والمغفرة هنا ليست مجرد محو للذنب، بل هي كرم وفضل إلهي عظيم، حيث يُبدِّل الله سيئاتهم حسنات، دلالة على عظيم رحمة الله بعباده التائبين وتشجيعًا لهم وحثًا على التوبة.
*الحفظ الإلهي للعبد المؤمن*
إن من حقق العبودية بحق، وأصبح عبدًا من عباد الله المؤمنين حق الإيمان، فقد نال الحفظ الإلهي، فالإيمان الصادق هو الدرع التي تحمي من كل شرور الدنيا والآخرة.
وفي هذا السياق، يتجلى وعد الله بحفظ المؤمنين وعزتهم في قوله تعالى:
(وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)، وهذه الآية الكريمة هي وعد إلهي وحكم شرعي وقانون كوني بأن المؤمنين الصادقين لا يكونون أبدًا تحت هيمنة أو سلطة قهرية دائمة للكافرين.
“وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ”: نفي مؤكد في المستقبل، أي أن هذا الحكم ثابت بقضاء الله.
“لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا”: “السبيل” هنا تعني طريقًا أو سلطة أو حجة قوية أو سيطرة وتحكم.
معنى الحفظ:
في الدنيا (المعنى الظاهري): لا يجوز شرعًا أن يكون الكافر ذا سلطة أو قوامة على المؤمن. كما أن هذا وعد بأن العاقبة للمؤمنين الصادقين، وأنهم لا يظلون مغلوبين ومقهورين بشكل مطلق.
في الآخرة (المعنى الأعم): لن تكون للكافرين حجة أو سلطان على المؤمنين يوم القيامة.
في النفس (المعنى الإيماني): لن يستطيع الكافر أن يجد طريقًا إلى قلب المؤمن الصادق ليزعزعه أو يضعف إيمانه، لأن المؤمن محفوظ بنور العبودية والرضا.
في الختام، إن الرضا بالله ربًا هو المدخل للعبودية، والعبودية هي طريق الكرامة، والكرامة هي مفتاح للحفظ الإلهي.
فليسأل كل واحد منا نفسه بصدق كل يوم: هل رضيت بالله ربًا حقًا، ليرضى بي عبدًا؟ حتى ننال بركة قوله تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) وحتى لا يجعل الله للكافرين علينا سبيلا!!