احترام آرء الناس


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

ميز الله عز وجل بني آدم عن سائر المخلوقات بنعمة العقل والفهم، ولكن العقول تختلف والأفهام تتباين، وهذه سنة الله في خلقه، قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[هود: 118]، ولما كان الخلاف سنة كونية، عَلَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أدب الخلاف واحترام الرأي الآخر، فلكل وجهة هو موليها.
وفي معركة أحد، يقدر النبي صلى الله عليه وسلم رأي الشباب وينزل على رغبتهم، ويخرج لصد عدوان المشركين خارج المدينة المنورة، ولا يكرههم على رأيٍ لم يقتنعوا به، وهو صلى الله عليه وسلم أصوب الناس رأياً وأرجح الناس عقلاً.

ويقدر رأي الصغار والأطفال، فقد أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه لبن، فشرب، وعن يمينه غلام صغير، والأشياخ عن يساره، قال: “يا غلام، أتأذن لي أن أعطي الأشياخ”، فقال الغلام: ما كنت لأوثر ‌بنصيبي ‌منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إياه، فاحترام رأي الصبي الصغير تنمية لعقله وفكره وتقوية لشخصيته فيستطيع أن يوازن الأمور ويعبر عن الأشياء، بخلاف الاستخفاف برأيه دومًا، ففي هذا إماتة لعقله وقتل لآدميته.

ويقدر الإسلام رأي الفتيات، فلا تُكره فتاة على الزواج حتى ترضى وتقبل، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع ‌بي ‌خسيسته، فجعل الأمر إليها، قالت الفتاة عندئذٍ: فإني قد أَجَزْتُ ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء”.

فالزواج لا إكراه فيه، بل إن الدِّين نفسَه لا إكراه فيه، كما قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256] وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}[الغاشية: 21، 22]، فالإسلام دين عزيز، ولعزته لا يُفرَض على الناس، وإنما يُعْرَض عرضاً حسناً، كما قال تعالي: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[النحل: 125].

أما الآراء الفقهية والاجتهادات البشرية فهي عُرْضة للخطأ ومخالفة الصواب، فتُقدر وتُحْترم ولا تستنكر، وهي التي قال فيها الإمام الشافعي: “رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، حتى قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة فاختلفنا، فجاءني إلى بيتي وطرق بابي ودخل، فأمسك بيدي وقال: يا أبا محمد، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة؟

وقد عرض هارون الرشيد على الإمام مالك أن يعلَّق كتابه الموطأ في الكعبة، وأن يكون مذهبه قانوناً عاماً للناس، فرفض الإمام رحمه الله، وقال له: “لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان”، فلا يلزم الناس شيئاً إلا بما ألزمهم به رب العالمين من السنن الكونية والأحكام الشرعية التي لا خلاف عليها، أما الخلافيات فستظل خلافيات، فلتتسع صدورنا للمخالفين، ولا نحجب رأيا ولا نحجر على عقل أحد ولا نسخر من فكر أحد، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ…}[الحجرات: 11].