خطبة بعنوان ( اليَقِينُ أَشْرَفُ أعْمَالِ القُلُوبِ ) للدكتور مسعد الشايب
23 سبتمبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( اليَقِينُ أَشْرَفُ أعْمَالِ القُلُوبِ )
للدكتور مسعد الشايب
الجمعة الموافقة 4 من ربيع الآخر 1447هـ الموافقة 26/9/2025م
لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
أولا: العناصر:
-
ماهية اليقين، ومكانته في الشريعة الإسلامية.
-
درجات اليقين، ومراتبه.
-
الخطبة الثانية: (ستٌ من فوائد اليقين وثمراته).
ثانيا: الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، هدانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم، سبحانه، سبحانه جعل اليقين شعارًا للمؤمنين، فقال عزّ مِنْ قائلٍ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:2-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي الأميّ الكريم، اللهم صلْ وسلمْ وباركْ عليه، وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأزواجه، وأتباعه أجمعين إلى يوم الدين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: من أهم أعمال القلوب، التي تترتب عليها أعمالُ الجوارحِ من طاعات وعبادات؛ ما يعرف ويسمى بـ (اليقين)، فتعالوا بنا أحبتي في الله بإذن من الحق تبارك وتعالى في لقاء الجمعة الطيب المبارك لنقف مع هذا الخلق الكريم العالي، الذي لا يضاهيه في الشريعة الإسلامية خلق آخر، تعالوا بنا لنتعرف على ماهيته، ونرى مكانته، وأنواعه، ودرجاته، ونعرج على شيء من ثمراته، فأقول وبالله التوفيق:
-
((ماهية اليقين، ومكانته في الشريعة الإسلامية))
اليقين في لغتنا العربية: مصدرٌ مأخوذ من مادة ( ي ق ن)، التي تدل على العلم، وتحقيق الأمر، وزوال الشك، تقول: (أَيْقَنْتُ) وَ (اسْتَيْقَنْتُ) وَ (تَيَقَّنْتُ)، أَيْ عَلِمْتُهُ، وتحققت منه، واستوضحته جيدًا.
أما في الاصطلاح أو في الشرع: فاليقين، هو: الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى عِلْمُ اللَّهِ يَقِينًا. وقيل: اليقين، هو: الاعتقاد الجازم الثّابت المطابق للواقع، الّذي لا يزول بتشكيك المتشكّك. وقيل: هو عبارة عن العلم المستقرّ في القلب لثبوته من سبب متعيّن له بحيث لا يقبل الانهدام. هذا اليقين يتمتع في شريعتنا الإسلامية الغراء بمكانة عالية، ومنزلة سامية، فهو:
1ـ اللبنة الأولى والأساسية في صرح الإيمان: فهو الدافع للشك، الجالب للعلم، المحقق للتصديق، فشجرة الإيمان لا تنبت في القلب إلا ببذرة اليقين، وكلما كبرت وترعرعت وفرعت؛ كلما زاد العمل وقوي الإيمان، ولذا باليقين ومراتبه، ودرجاته تتفاوت مراتب المحبين، يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله): (اليقين وهو من الإيمان بمنزلة الرّوح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمّر العاملون، وعمل القوم إنّما كان عليه، وإشاراتهم كلّها إليه)(مدارج السالكين). وقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ الأنطاكي: (إِن أقل اليقين إِذَا وصل إِلَى القلب يملأ القلب نورا وينفي عَنْهُ كُل ريب ويمتلئ القلب بِهِ شكرا ومن اللَّه تَعَالَى خوفا)(الرسالة القشيرية، باب: اليقين)
2ـ ضرب من العلم: فوق المعرفة وفوق الدراية، فالمعرفة والدراية قد يزولان، أما علم اليقين فهو ثابتٌ لا يزول أبدًا، ولذا يقال: علم يقين ولا يقال: معرفة يقين، ولذا كان اليقين هو اللبنة الأولى والأساسية في صرح الإيمان، فشَجَرَةُ الإيمان لا تقوم إلا على سَاق الْعلم والمعرفة، ولا تنبت إلا ببذرة اليقين. وبعضهم: جعله من العلم اللدني، وجعله فوق العلم الكسبي الذي تعارضه الشكوك، والأوهام.
3ـ أعظم ما تحلى به المرسلون، والأولياء، والصالحون: فبه قطعوا المفاوز إلى الله، وبه صبروا على الأذى في سبيل الله، وبه لم يخشوا أحدًا إلا الله، وبه استعذبوا مرارة الهجر والفراق، وألم الإيذاء، وحسرة الفقد، وكيد الشقاق…إلخ. فقد جعله بعضهم قرينًا للتوكل على الله، والصحيح: أن التوكل ثمرةٌ من ثمرات اليقين.
فإلى أرض سيناء كان خروج بني إسرائيل، وفرارهم وهروبهم من الفرعون، وبطشه، ساعة أن فلق الحق تبارك وتعالى لهم البحر، وهو (خليج السويس اليوم) الحدّ الجنوبي الغربي لشبه جزيرة سيناء،، أو (بحر سوف)، كما في التوراة، وصدق الله إذ يقول: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ*فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ*وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ*وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:61ـ65].
وعن ابن عباس ﭭ، قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ ڠ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ}[آل عمران:173])(رواه البخاري).
وعن خباب بن الأرت ﭬ، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، (وكانت تلك الشكوى وقت اشتداد الإيذاء والاضطهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من كفار قريش). فقال: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ)(رواه البخاري).
4ـ يورث جملة من الأخلاق الحميدة، والمقامات الكريمة: كما سنرى عند الحديث عن بعض ثمراته إن شاء الله. يقول الإمام ابن القيم: (فهو مادّة جميع المقامات والحامل لها)(مدارج السالكين). هذا اليقين الذي نتحدث عنه اليوم له درجاتٌ، ومراتب، وأول درجة من درجاته:
-
((درجات اليقين، ومراتبه))
1ـ علم اليقين: وهو القبول والتسليم لما ظهر من الدين، والتصديق والإيمان بما غاب عنا منه، والوقوف على ما قام بالحقّ سبحانه وتعالى.
فالّذي ظهر من الدين هو الأوامر والنواهي، أظهرها الله على ألسنة أنبيائه ورسله. والّذي غاب عنا من الدين: هو الأمور السمعية (التي سمعنا عنها، ولم نرها) كالبعث والنشر، والقيامة والحشر، والحساب والصّراط، والجنّة والنّار، ونحو ذلك فيجب الإيمان بها، أمّا الوقوف على ما قام بالحقّ، فيقصد به: أسماؤه وصفاتُه وأفعالُه سبحانه وتعالى، وصدق الله إذ يقول: {الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:1ـ 4].
وهذه الدرجة من درجات اليقين طريقها: العلم والدراسة، والنظر، والتدبر، والتأمل في الكون المنظور (الكون)، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ*وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ*وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:2 ـ 4].
وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ*وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ*وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ*تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}[الجاثية:3 ـ 6].
2ـ عين اليقين: ما استغنى به صاحبه عن طلب الدّليل لما ظهر وانكشف أمام عينيه، لأنّ الدّليل يطلب للعلم بالمدلول، فإذا كان المدلول مُشاهدًا له. فلا حاجة حينئذ للاستدلال، قال تعالى على لسان هدهد سليمان ڠ: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ*إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ*وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ}[النمل:22 ـ 24].
وهو ما عبر عنه ساداتنا الصوفية، فقالوا: هو ما كان بحكم البيان، أي: بثبوت العلوم وتواليها على قلب العارف (المكاشفة)، فاستغنى بهذا البيان عن الدليل والبرهان، ومن ذلك قول بَعْض السلف ﭫ: (لو كشف الغطاء مَا ازددت يقينا ثُمَّ المعاينة والمشاهدة)(الرسالة القشيرية).
وقال بعضهم: (رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقِيقَةً. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُمَا بِعَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَرُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنَيْهِ: آثَرُ عِنْدِي مِنْ رُؤْيَتِي لَهُمَا بِعَيْنِي. فَإِنَّ بَصَرِي قَدْ يَطْغَى وَيَزِيغُ، بِخِلَافِ بَصَرِهِ صلى الله عليه وسلم)(مدارج السالكين).
3ـ حقّ اليقين: وهو ما كان بطريق المشاهدة لما غاب عنا من أمور الدين، والأمور السمعية، وهذه منزلة الرّسل عليهم الصّلاة والسّلام، فقد رأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج الأنبياء والمرسلين، ورأى بعينه الجنّة والنّار، ورأى أصناف الملائكة، ورأى رب العزة تبارك وتعالى، وكلّم الله تعالى موسى ڠ بلا واسطة، أمّا بالنّسبة لنا فإنّ حقّ اليقين يتأخّر إلى وقت اللّقاء، إلى يوم القيامة، قال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ*فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ*وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ*إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ*فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}[الواقعة:88 ـ 96]، أي: ما ذكر من النعيم والعذاب حق اليقين ترونه بأعينكم يوم القيامة.
فعلم اليقين لأرباب العقول، وعين اليقين لأَصْحَاب العلوم، وحق اليقين لأَصْحَاب المعارف من الأنبياء والمرسلين، وصدق الله إذ يقول مخاطبًا نبينا صلى الله عليه وسلم {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}[النساء:113].
مثال لهذه المراتب: ومما يوضح هذه المراتب الثلاثة: أن يخبرك شخصٌ بأنّ عنده عسلًا وأنت لا تشك في صدقه فهذا علم اليقين، تم يريك إياه فتزداد يقينًا فهذا عين اليقين، ثم يذيقك إياه فهذا حق اليقين منه.
فعلمُنَا الآن بالجنة والنار علم يقين، فإذا أزلفت الجنة في الموقف يوم القيامة، وشاهدها الخلائق، وبرزت الجحيم وعاينها الغاوون، فذلك عين اليقين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك هو حق اليقين.
عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فالتائب من الذنب كمَنْ لا ذنب له
(الخطبة الثانية)
((ستٌ مِنْ فوائد اليقين وثمراته))
الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
أيها الأحبة الكرام: فقد عشان مع تعريف اليقين، ورأينا مكانته، ووقفنا على درجاته ومراتبه، بقي لنا في تلك الجمعة المباركة أن نعايش بالنماذج بعضًا من فوائده وثمراته، فأقول: من فوائد اليقين وثمراته:
1ـ توريث الطمأنينة، والسكينة، والثبات، وذهاب الرهبة والخوف من الغير: فقد خلّدت السنة النبوية ذكر: ماشطة بنت الفرعون وأولادها، فعن ابن عباسٍ ﭭ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة أسري به مر بريح طيبة، فقال: (يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟). قَالَ: هَذِهِ رِيحُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا، بَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ سَقَطَ الْمِدْرَى (المشط) مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللهِ. فَقَالَتْ بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ قَالَتْ: بَلْ رَبِّي وَرَبُّكِ اللهُ. قَالَتْ: وَإِنَّ لَكِ رَبًا غَيْرَ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، اللهُ. قَالَتْ: فَأُخْبِرُ بِذَلِكَ أَبِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَخْبَرَتْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَلَكِ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَتْ: نَعَمْ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ. فَأَمَرَ بِنُقْرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَجَعَلَ يُلْقِي وَلَدَهَا وَاحِدًا وَاحِدًا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى وَلَدٍ لَهَا رَضِيعٍ، فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، اثْبُتِي فَإِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ)(صحيح ابن حبّان).
2ـ جالبٌ للراحة والسعادة: فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لَا تُرْضِيَنَّ أَحَدًا بِسَخَطِ اللهِ، وَلَا تَحْمَدَنَّ أَحَدًا عَلَى فَضْلِ اللهِ، وَلَا تَذُمَّنَ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللهُ؛ فَإِنَّ رِزْقَ اللهِ لَا يَسُوقُهُ إِلَيْكَ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْكَ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ (الراحة) وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَا وَالْيَقِينِ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي السَّخَطِ)(المعجم الكبير للطبراني).
3ـ التوكل على الله: وهو من أعظم ثماره، قال الإمام القشيري: (ثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تعالى في كل شيء، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال)(الرسالة).
وعن أبي بكر ﭬ: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا)(متفق عليه)، وحينما أدركهما سراقة بن مالك ـ يريد أن يفوز بالجائزة التي رصدتها قريش لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، فيقول سيدنا أبو بكر ﭬ: يا رسول الله أُتينا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها في الصخر والحجارة. (متفق عليه).
4ـ الأخذ بالأسباب والسعي والعمل وعدم الركون إلى الدعة والراحة والكسل، وإعداد العدة لكل أمر مع ترك النتائج لله (عزّ وجلّ) يقدرها كيف شاء، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك:15]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَرُوحُ بِطَانًا)(رواه ابن ماجه)، وعن أنس بن مالك ﭬ قال: جاء رجل على ناقة له، فقال: يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟. فقال: (اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ)(رواه الترمذي).
5ـ الثقة في أن الأرزاق بيد الله لا يملكه مخلوق لأحد، ولا يستطيع مخلوق أن يمنعه عن أحد، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}{هود:6]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ)(رواه ابن ماجه)، وعن حبة، وسواء، ابني خالد ﭭ، قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعالج شيئا، فأعناه عليه، فقال: (لَا تَيْأَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَا تَهَزَّزَتْ رُءُوسُكُمَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ، لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرٌ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ (عَزَّ وَجَلَّ))(رواه ابن ماجه).
6ـ الاعتماد على الله والتيقن أن الشفاء منه عند الإصابة بالأوبئة والأمراض، وأنه هو مسببها ورافعها، بدون اعتماد على طبيب أو دواء أو أسباب…الخ، قال تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا أَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ دَاءً، إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ)(رواه أحمد)، وعن أبي خزامة ﭬ، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقي بها، وتقى نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟. قال: (هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ)(رواه ابن ماجه).
فاللهم ارزقنا اليقين الصادق، واجعلنا من المؤمنين الصادقين، وثبتنا على الحق يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن ترزقنا اليقين الذي يورثنا الطمأنينة والسكينة، وأن ترزقنا الصبر والرضا بقضاءك، وأن تجعلنا من المؤمنين الصادقين الذين يثبتون على الحق.
اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء والغلاء، وأمدنا بالدواء والغذاء والكساء، اللهم اصرف عنّا السوء بما شئت، وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.
كتبها الشيخ الدكتور/ مسعد أحمد سعد الشايب