فقه المقاصد مدخل للقراءة الحضارية للسيرة النبوية
11 سبتمبر، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر
بقلم الأستاذ : مهدى صالحى
إن القراءة المقاصدية هي تلك المقاربة الفقهية العقلية التي ترسم للعقل الإسلامي اليوم منهاجا عمليا في السلوك الفردي والجماعي وذلك بإعادة إحياء تعاليم السيرة النبوية استجابة لمقتضيات العصر والوعي بسنّة التغير فهذا دأْب الصحابة في الاجتهاد وفي التعاطي مع النوازل.وحتى على الصعيد التربوي فإنّ علي بن أبي طالب يقول:ربّوا أبنائكم بغير تربيتكم فإنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم “.
ثم إنّ هذه القراءة المقاصدية لتعاليم السيرة تحاكي زمن المتغيرات وتسعى إلى إضفاء أبعاد تربوية أخلاقية ذات رؤية تجديدية ترسّخ فهما عقلانيا في الذهنية الإسلامية وغير الإسلامية لشمائل النبوة،لأن السيرة ليست رُكاما من الأخبار وليست ترفا فكريا نظريا،وإنما المعيار الأخلاقي الحضاري الذي يوجّه المشروع الإصلاحي نحو المسار الرشيد بعلاج التحديات الكبرى التي تهدّد كيان الإنسان والمجتمع الناجمة عن تصورات سلبية تقوم الاتجاهات الفكرية الغربية بترويجها في الساحة العربية الإسلامية اليوم .
ولقد تبنّت السياسة الخارجية المناهج الاستشراقية للمزج بين الشبهات والقيم النبوية في السيرة بغرض القطيعة بين الضمير الإسلامي وبين ذلك المنهاج الأخلاقي النبوي؛وهذه استراتيجية سياسية أجنبية تحوي نمطا من السيطرة الثقافية المبرمجة بتوظيف تيارات إسلاموية لاتمتلك رؤية واقعية حضارية لمقاصد الحروب التي خاضها النبي ﷺ ضدّ قوى الاستبداد في عصره ممّا جعل العقل الإنساني المعاصر يتلقّن رؤية محدودة عن حقيقة الرسالة الخاتمة مفادها أن الإسلام دين يدعو إلى عدم احترام حقوق الإنسان ،وهو مايستوجب إعادة التأصيل المقاصدي لحقيقة النبوة ومقتضياتها لتأسيس دعائم الحضارة بإرساء قيم إسلامية إنسانية تستجيب للسياقات السوسيوثقافية حسب طبيعة عوائد كل عصر وأعرافه بناء على القاعدة الفقهية:”لاينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”؛فالأحكام المبنية على نص قطعي الثبوت غير قابلة للتبديل .لكنّ الوسائل لتنزيل هذه الأحكام ومقاصدها متطورة .إذلامناص من إيجاد آليات لتفعيل قيم السيرة بما يتماشى ورهانات هذا العصر باعتباره مطلبا مقاصديا إلزاميا مشروعا للتصدّي للغزو الرقمي وثورة الاتصالات الهادفة إلى اختراق معالم السيرة لإحداث أزمة قيم تهدم مؤسسة الأسرة وبنية المجتمع. ولعل هذا مادفع بالصحابة إلى قراءة السيرة بما يمكّنهم من مواجهة مستجدات زمانهم حيث قال علي بن الحسين:كنّا نعلّم أبنائنا المغازي والسرايا كما نعلّمهم السورة من القرآن”.
إن الازمة القيمية اليوم من أخطر المفاسد المتعارضة مع مقاصد الشريعة والعقيدة معا بالإمكان درؤها بإعادة تجديد الوعي الإسلامي وغير الإسلامي بجوهر المفارقة بين الجهاد والتطرف الديني والإيديولوجي إذ المصالح المتغياة من الجهاد النبوي هي تأسيس قيم:”الرحمة،التسامح،العدالة ،إنصاف المظلوم،احترام الحقوق والحريات…”ودرء الفساد الأخلاقي:”العصبية،العبودية،الظلم…”لتجاوز تداعيات القيم الطبقية الاجتماعية في تلك الحقبة .
وقد أسّس النبيّ ﷺ أنواعا للجهاد -بعيدا عن مفهوم القتال – من ضمنها ماتجلّى في قوله ﷺ:أعظم جهاد كلمة حق عند سلطان جائر” ذلك أن الاستبداد السياسي يعدّ كذلك من أكبر المفاسد المتعارضة مع أصول النصوص القطعية ،والبعد المصلحي في هذا السياق هو تنزيل العدالة الاجتماعية ضمانا لحقوق الانسان بمناهضة الاستبداد والوسيلة لدرء هذه المفسدة هي الجهاد بالكلمة .
ووفقا لهذا التأصيل المقاصدي فإن الغزو السائد اليوم هو الغزو الثقافي والفكري القيمي ولاسبيل لمقاومته إلا بهذا الضرب من الجهاد وهو تنزيل قيم السيرة انطلاقا من تقنيات العصر ذاتها فهي بمثابة الآليات والوسائل لبلوغ مقصد قطعي وهو إرساء مشروع حضاري إسلامي لإبراز عالمية السيرة النبوية وهذه التقنيات بمنزلة خصوصية هذا العصر قال تعالى:”وماأرسلناك إلارحمة للعالمين” .إضافة إلى ذلك الخطاب النبوي المؤسّس لمنظومة من المبادئ الإنسانية الحضارية -خطبة الوداع- تحفظ حقوق الإنسان المادية والمعنوية:”إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا..”
ثمّ إن هذه الحقوق من المصالح الشرعية الضرورية التي شرعت الأحكام لضمانها تكريما للذات الإنسانية،وهذه رؤية حضارية ذات طابع كوني للسيرة وهي إلى ذلك معيار بديل عن الأنموذج الاستراتيجي الغربي الذي استخدمه ليقدّم صورة مغلوطة للإنسانية عن طبيعة النبوة التي يفنّدها قوله ﷺ:إذا أمّن الرجلُ الرجل على نفسه ثم قتله فأنا بريء من القاتل ولوكان المقتول كافرا”.