التبرك بالنبي ﷺ بين الإتباع والإبتداع
7 سبتمبر، 2025
شبهات حول قضايا التصوف

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف
مقدمة
كثُر في زماننا من يثير الشبهات حول قضية التبرك، حتى ذهب بعضهم إلى رميه بالشرك والكفر، محتجين بأن التبرك عبادة لغير الله أو غلو في المخلوق. وهذه دعوى مردودة شرعًا وعقلًا، إذ التبرك ثابت بالسنة الصحيحة وإجماع الصحابة والتابعين والأئمة.
فليس التبرك عبادة، وإنما هو طلب النفع والبركة مما أودع الله فيه الخير، مع اعتقاد أن النافع والضار هو الله وحده. ولذا فإن إنكاره جملةً وتفصيلًا طعن في عمل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان.
أولاً: التبرك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
1- التبرك بوضوئه صلى الله عليه وسلم
ثبت في صحيح البخاري عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم، ورأيت بلالاً أخذ وَضوء النبي صلى الله عليه وسلم والناس يبتدرون وضوءه، فمن أصاب منه شيئًا تمسح به، ومن لم يُصب منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه.”
2- التبرك بشعره الشريف
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.”
فهذان الحديثان يدلان على أن الصحابة كانوا يتبركون بآثاره صلى الله عليه وسلم رجاء النفع والشفاء.
ثانياً: استمرار التبرك بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
1- التبرك بثيابه
في صحيح مسلم أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت لعبد الله بن كيسان: “هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم… وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يُستشفى بها.”
وعلق الإمام النووي قائلاً: “وفي هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم.”
2- التبرك بشعره بعد وفاته
روى البخاري ومسلم عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: “أرسلني أهلي إلى أم سلمة بقدح من ماء، فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم… وكان إذا أصاب الإنسان عين أو شيء بعث إليها مِخضَبة.”
3- التبرك بأماكنه وآثاره
ذكر ابن سعد في “الطبقات” أن أصحاب رسول الله كانوا إذا خلا المسجد جسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بأيمانهم ثم استقبلوا القبلة يدعون.
كما كان ابن عمر رضي الله عنه يضع يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر ثم يمسح بها وجهه.
4- إقرار العلماء للتبرك
قال ابن تيمية في “اقتضاء الصراط المستقيم” (1/367):
“فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي صلى الله عليه وسلم ويده.”
أما الإمام أحمد نفسه، فقد روي عنه أنه كان يتبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم ويغسله في الماء ويشربه.
ثالثاً: التبرك في سيرة الصحابة والتابعين
1- خالد بن الوليد رضي الله عنه
قال رضي الله عنه كما رواه الحافظ ابن حجر: “اعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق شعره، فسبقت إلى ناصيته فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمتها، فما وجهت في وجه إلا فُتح لي.”
2- ثابت البناني مع أنس بن مالك
روى أبو يعلى – وأخرجه ابن حجر – عن ثابت البناني قال: “كنت إذا أتيت أنسًا أخذت بيديه فأقبلهما وأقول: بأبي هاتان اليدان اللتان مسّتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم.”
3- ابن سيرين والتابعون
قال ابن سيرين:”قلت لعبيدة: عندنا من شعر النبي صلى الله عليه وسلم أصبناه من قِبل أنس أو أهله، فقال: لأن تكون عندي شعرة منه أحب إليّ من الدنيا وما فيها.”
رابعاً: موقف الأئمة من التبرك
أ- الإمام أحمد بن حنبل: نقل ابنه عبد الله أنه رأى والده يقبل شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ويضعها على عينه ويتبرك بها.
ب- الإمام النووي: صرح في شرحه لصحيح مسلم بجواز التبرك بآثار الصالحين.
ج- الحافظ ابن حجر: نقل أخبار الصحابة والتابعين في التبرك وأقرها.
د- الإمام الذهبي: قال في “سير أعلام النبلاء”: “أين المتنطع المنكر على أحمد… أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع.”
خامساً: التبرك بالصالحين من غير النبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن التبرك مقصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل ثبت عنه أنه كان يتبرك بما لامسته أيدي الصحابة. فقد روى الطبراني – وحسنه الألباني – عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُؤتى بماء من المطاهر فيشربه رجاء بركة أيدي المسلمين.
ولهذا بوّب ابن حبان في صحيحه: “باب ذكر ما يستحب للمرء التبرك بالصالحين وأشباههم.”
خلاصة
إن التبرك أمر ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وليس عبادة لغير الله، وإنما هو طلب للخير الذي أودعه الله في بعض عباده وآثارهم، مع اعتقاد أن الله وحده هو النافع الضار.
أما الذين يبدّعون التبرك ويصفونه بالشرك، فقد خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأئمة الإسلام، وشابهوا الخوارج في غلظتهم وتنطعهم.
فلنتمسك بما كان عليه سلف الأمة، ولنزداد حبًا واتباعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، داعين بقول الإمام الذهبي: “أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع.”
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.