جهاد النفس هو المعركة الخفية التي يخوضها الإنسان في أعماقه، حيث يواجه ميولها وأهواءها ليهذبها ويرتقي بها نحو الطاعة والفضيلة فهو جهاد لا تُسمع فيه أصوات السيوف، لكنه أعظم أثرًا في حياة المريد، إذ به يحقق المرء التزكية، ويصل إلى صفاء القلب، ويثبت أمام الفتن والشهوات ومن هنا كان جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، لأنه أساس كل إصلاح وبداية كل طريق إلى الله وفى هذا اللقاء نستكمل سلسلة ( عدة المريد فى السير إلى الله)
حوارنا اليوم مع الدكتور : فارس أبو حبيب ( إمام ومدرس وخطيب بوزارة الأوقاف )
س33: مما يشتهر به التصوف مصطلح (جهاد النفس)، فما هو تعريف ذلك المصطلح؟
الجواب:
جهاد النفس في اصطلاح الصوفية هو: “مخالفة النفس في هواها، وحملها على الطاعة، ومجاهدتها لترك المعاصي، وإلزامها طريق الصبر والذكر والإخلاص حتى تُهذّب وتصفو”.
وهو أوّل وأهم مراتب الجهاد عندهم، ويسمونه: “الجهاد الأكبر”، لأنه ملازم للمريد طول الطريق، ولا ينفك عنه سالك إلى الله.
قال الإمام الجنيد البغدادي رضي الله عنه: “جاهدت نفسي عشرين سنة، ثم استقامت لي في عشرين سنة”. “الرسالة القشيرية”، عبد الكريم القشيري، صـ60.
وقال الإمام أبو طالب المكي: “وجهاد النفس هو أصل الجهاد، ولا يُتصوَّر الثبات في جهاد العدو إلا بعد المجاهدة مع النفس”. “قوت القلوب”، ج2، صـ44.
فالتصوف يُركّز على تهذيب الداخل، ليكون الجهاد في الخارج خالصًا لله، لا حظ فيه للنفس أو السمعة أو الهوى.
س34: وهل له أصل شرعي أو دليل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؟
الجواب :
نعم، جهاد النفس له أصل شرعي راسخ في القرآن الكريم والسنة المطهرة، بل هو مقدمة ضرورية لجهاد العدو.
فمن القرآن الكريم:
1- قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: “أي: جاهدوا أنفسهم وأهواءهم وشهواتهم…”.
2- وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9–10] وأي: زكّى نفسه بالجهاد والتهذيب.
3- وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} إلى قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7-8]
فدلّ على أن النفس فيها استعداد للخير والشر، ولا بد من مجاهدتها لتغلب الخير.
ومن السنة النبوية:
1- عن فضالة بن عبيد، أن رسول الله ﷺ قال:
“المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله” رواه أحمد في المسند.
2- حديث مشهور وإن كان في إسناده ضعف لكنه مشهور عند أهل العلم والمعنى صحيح، أن النبي ﷺ قال بعد غزوة تبوك: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: “جهاد النفس”. أخرجه البيهقي في “الزهد الكبير” (ج1 ص165)، وقال العراقي: إسناده ضعيف، لكن أئمة التصوف فهموا معناه من النصوص الأخرى الصحيحة.
قال الإمام ابن القيم: “جهاد النفس أربع مراتب: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ثم على العمل به، ثم على الدعوة إليه، ثم على الصبر على أذى الناس فيه. فإذا استكمل هذه المراتب، صار من الربانيين”. “زاد المعاد”، ج3، صـ10.
س35: وهل جاهد الصحابة أنفسهم؟
الجواب :
نعم، الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا أعظم من جاهدوا أنفسهم بعد رسول الله ﷺ، وكان جهادهم للنفس واضحًا في أقوالهم وأفعالهم، بل كان هو الأساس الذي بنوا عليه جهادهم في ميادين القتال والدعوة والعبادة.
ودلائل ذلك كثيرة، منها:
1- قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
“حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر”.
“الزهد” للإمام أحمد بن حنبل، صـ145.
2- وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يبيت وهو يقول لنفسه:
“ما صنعتَ الليلة؟ أذكرتَ الله؟ أصليتَ كذا؟ أنفقتَ كذا؟”، يراجع نفسه كأنه يُحاسبها محاسبة دقيقة. ذكره ابن الجوزي في “صفة الصفوة”، ج1 صـ405.
3- وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول:
“جاهدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت”، وهو من كبار الصحابة. نقل عنه في “حلية الأولياء” لأبي نعيم، ج1 صـ218.
فهؤلاء هم الصحابة، مع علو مقامهم، لم يغفلوا عن مجاهدة نفوسهم، لأنهم علموا أن الطريق إلى الله لا يُقطع إلا على جسر المجاهدة والمراقبة والمحاسبة.
وقد قال سيدنا رسول الله ﷺ:
“ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”.صحيح البخاري (52) ومسلم (1599)
فإذا كان الصحابة يسعون لإصلاح قلوبهم، فهم أهل جهاد النفس، بل قدوة فيه، ومن بعدهم سار الصالحون.
س36: يعترض البعض على مصطلح جهاد النفس عند الصوفية بحجة أنه يعطل وجوب جهاد أعداء الإسلام، أو أن الصوفية يتحججون بجهاد النفس حتى لا يجاهدوا أعداء الإسلام، فهل هذا المطعن صحيح؟
هذا الاعتراض غير صحيح، وينشأ غالبًا من سوء فهم للتصوف الحقيقي أو من النظر إلى تصرفات بعض المنتسبين إليه لا إلى أصوله ومقاصده.
بيان الرد:
1- جهاد النفس لا يُعارض جهاد العدو، بل هو شرط من شروطه.
قال الإمام الغزالي رحمه الله:
“من لم يُجاهد نفسه على الطاعة، خيف عليه أن يُجاهد في سبيل هواه لا في سبيل الله”. “إحياء علوم الدين”، ج3، صـ11.
2- التصوف الحق يرى أن النفس قد تُفسد العمل، وإن كان في ظاهره خيرًا، ولذلك لا بد من تهذيبها قبل الدخول في جهاد العدو.
3- الذين يعارضون التصوف بسبب هذا الفهم يتجاهلون أن النبي ﷺ قال: “المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله”رواه الإمام أحمد في مسنده وهو حديث حسن.
4- واقع التاريخ الإسلامي يكذّب هذه الشبهة، فمشايخ التصوف وعلماؤه كانوا من أعظم المجاهدين، كما سيأتي في الإجابات التالية.
5- الجهاد نوعان:
جهاد أصغر: بالسيف والسنان.
جهاد أكبر: بالنفس والهوى.
وكلاهما واجب في موضعه، ولا تعارض بينهما.
الخلاصة: الصوفية لم يكونوا أبدًا دعاة إلى ترك الجهاد، بل يرون أن جهاد النفس هو إعداد للجهاد الأعظم ضد أعداء الدين، وأن النفس المهذبة هي القادرة على نُصرة الدين بحق.