حديث فتح القسطنطينية… النص الذي يفضحُ انتقائيةَ الوهابية، ويضعهم أمام التاريخ والعلم معًا
11 أغسطس، 2025
التراث الاسلامى

بقلم الكاتب : محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
لنواجه الحقيقة بلا تلوين: كلُّما صادف الخطابُ الوهابيُّ حديثًا يُحرِجُ سرديته العقدية ويهدم دعايته السياسية ضدّ العثمانيين وأهل السنّة من الماتريدية والأشاعرة، هرع إلى التشكيك، يلوّح بعباراتٍ فضفاضة من نوع: “موضوع”، “منكر”، “لا أصل له”.
لكنّ حديث «لَتُفْتَحَنَّ القُسطنطينيّةُ، فَنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ونِعْمَ الجيشُ ذاكَ الجيشُ» ليس ورقةً مبعثرة على هامش كتب التراث؛ إنّه حديثٌ خرّجه أئمّة كبار من طرقٍ متعدّدة، وتلقّاه جماعة بالتصحيح والتقوية، وله من الشواهد والمتابعات ما يَخنقُ كلَّ محاولاتِ التهوين. الإمام أحمد أخرجه في «المسند»، والطبراني في «المعجم الكبير»، وذكره البخاري في «التاريخ الكبير» مع التّنبيه إلى وجود متابعة، وصحّحه الحاكم في «المستدرك» ووافقه الذهبي، ونصّ الهيثمي على قوة رجاله، ونقل ابن عبد البر تحسينه، بل ووضعه السيوطي في «الجامع الصغير» في عداد الصحيح. هذه ليست “أمنيات خصومكم”، بل وقائع موثّقة في مصادرها.
ولأن الوهابية تعرف أن المعركة هنا ليست مع جملةٍ في كتاب، بل مع ذاكرة أمة ومجد فتحٍ كبير، تراهم يتعلّقون بخيطٍ واحد: راوٍ في السند لُوحظت جهالته، هو عبد/عبيد الله بن بشر عن أبيه. حسنًا؛ فلنذهب إلى السند نفسه ونفكّكه أمام القارئ، لا كما يفعل خطيب المنبر حين يقتطع ما يهوى. السلسلة الأشهر تدور على زيد بن الحباب عن الوليد بن المغيرة المعافري عن عبد/عبيد الله بن بشر عن أبيه بُشر (واختُلف: الخثعمي أو الغَنَوي) عن النبي ﷺ. الصحابيّ الأب عدالته مقرّرة، والجهالة إنّما قيلت في الابن، وهذه علّة لا تسقط الحديث إذا عضدته متابعات وشواهد؛ ولهذا قال البخاري في «التاريخ الكبير» بعبارته الدالّة «له متابعة»، وجاء الطبراني بطريقٍ يوافق أصل الرواية، فاجتمع تعدُّد المخارج مع تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي وتقوية الهيثمي، فارتفع الحديث عن درك “المنكر” إلى ما هو عليه عند كثير من أهل التحقيق: حسنٌ لغيره. هذا هو المنهج، لا الانتقائية.
ومن تمام الإنصاف أن نُذكّر بأنّ أصل البشارة بفتح القسطنطينية ثابتٌ في «الصحيحين» نصًّا ومعنى. في «صحيح البخاري» حديث أُمّ حَرام، وفيه قول النبي ﷺ: «أولُ جيشٍ من أمتي يغزون مدينةَ قيصر مغفورٌ لهم»؛ ومدينةُ قيصر عند جمهور الشُّرّاح هي عاصمة الروم، أي القسطنطينية، وهو نصٌّ قاطع في الفضيلة والثواب لجيش الفتح الأول. فهل يجرؤ منصفٌ على وصم هذا الأصل بالوضع؟! وبإزاءه في «صحيح مسلم» نبوءةٌ أخرى: «لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق…» في وصف فتحٍ آخر اعتماده على الذكر والتكبير دون قتالٍ تقليدي، وهو سياقٌ أُخرويٌّ لاحق. هاتان الركيزتان المتينتان تُبطِلان من جذورهما دعوى أن “القصة برمّتها ملفّقة”، وتُبقِيان الخلاف في زيادة «فَنِعْمَ الأمير… ونِعْمَ الجيش…» خلافَ درجة لا خلافَ أصل.
ولِمَ كلُّ هذا الانزعاج إذن؟
لأنّ التاريخ لا يرحم. حين تذكر الحديث، يستيقظ اسم محمد الفاتح، السلطان العثماني الذي فتح القسطنطينية وهو ابن إحدى وعشرين سنة، قائدُ دولةٍ حَنَفِيّةِ الفقهِ مَاتُرِيدِيّةِ الاعتقاد، هذا هو الإطار العقدي الرسمي الذي ساد النُّخَب العثمانية ومؤسساتها التعليمية قرونًا، وهو ما تقرّره دراسات أكاديمية جادّة في «سنّية العثمانيين» وإطارها الكلامي، فضلًا عن فتاوى معاصرة تذكر عقيدة الفاتح صراحة. الاعترافُ بذلك يعني انهيار الدعوى الوهابية التي بنت سرديتها على تخويف الناس من الماتريدية ووصم العثمانيين والتصوف… فكيف يطيقون حديثًا يضع وسام «نِعْم الأمير ونِعْم الجيش» على صدر جيشٍ يقوده سلطانٌ مَاتُرِيدِيٌّ حنفيُّ الهوى؟! لهذا تراهم مرّةً يصيحون: “الأصل ضعيف”، ومرّةً يزعمون: “لو صحّ ما مدح إلا من كان على عقيدتنا”، وكلا القولين تبديدٌ للعلم، لا طلبٌ له.
ولنزد الخصم إلزامًا بما يفرّ منه دائمًا: التأصيل بالأسانيد خطوةً خطوة. السلسلة التي عليها المدار من طريق الإمام أحمد: زيد بن الحباب، وهو صدوق مشهور، ولم يأتِ هنا من جهة من يُؤخذ عليه الخطأ فيهم؛ عنه الوليد بن المغيرة المعافري المصري، وقد روى عنه جماعة وتُوبِع، وحديثه مقبول عند طائفةٍ من النقّاد؛ عنه عبد/عبيد الله بن بشر، وهنا مكمنُ الخلاف لجهالة حاله، غير أنّ ابن حِبّان ذكره في «الثقات»، والقاعدة أنَّ الجهالة إذا عضدتها متابعة أو شاهد قَوِيَ الخبر؛ وأبوه بُشر صحابيّ عدل، والاختلاف في نسبته (الخثعمي/الغنوي) لا يقدح في الأصل. هذا التركيب هو الذي جعل الحاكم يصحّح، والذهبي يوافق، والهيثمي يقول في «المجمع»: «رجاله ثقات»، وابن عبد البر يحسّنه، والسيوطي يجعله في الصحيح. دعْ عنك من يتعامى عن كل هذا، ثمّ يتشبّث بتضعيفِ متأخّرٍ ويجعله خاتمة الأحكام! هذه ليست صناعةَ حديث، بل صناعةَ رأيٍ مسبق.
ومَن رام مزيدَ إقفالٍ لباب الجدل؛ فها هو شاهدٌ آخر متين يعضد المعنى: سُئل النبي ﷺ: «أيُّ المدينتين تُفتح أولًا: قسطنطينية أم رومية؟» فقال: «مدينةُ هرقل تُفتح أولًا» يعني القسطنطينية؛ رواه أحمد والحاكم، وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي، وحكم الهيثمي بأن رجاله رجال الصحيح غير أبي قبيل وهو ثقة. إنّها نبوءةٌ ثانية تؤكّد ترتيب الوقائع: القسطنطينية أوّلًا، ثم رومية لاحقًا، وتفسير «مدينة هرقل» لا يلتبس على أحد من أهل العلم. فهل بعد هذا من موضعٍ لصرخات “منكرٌ لا أصل له”؟!
يبقى أن يقال: وماذا عن حديث «مدينة قيصر» في «صحيح البخاري»؟ أين “القسطنطينية” في لفظه؟ والجواب أنّ مدينة قيصر في لسان العرب والسياق النبوي هي عاصمة الروم، وقد فُهِمَت تاريخيًا بأنها القسطنطينية، ولذلك اندفعت جيوش الصحابة والتابعين إلى أسوارها مبكرًا، ودفن عندها أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه. لا حاجة لتكلّفٍ حين يكون الاستعمال التاريخي واللغوي قد حسم الدلالة، ثم جاء الواقع فسدّدها بالفتح.
وهنا تتعرّى الإشكالية الوهابية؛ فالقضية ليست علم حديثٍ بقدر ما هي خصومةٌ مع إطارٍ سنّيٍّ عريض: الدولة العثمانية بفقهها الحنفي وكلامها الماتريدي، وتاريخ التصوف السنّي الذي رعته الدولة وأنتج رجالًا وفتوحات. لذلك، تُساق الأحكام على الأحاديث بميزان الهوى؛ فإن وافقت سرديتهم رُقِّعت أسانيدها وأُنقِذت بأيّ شاهد، وإن خالفتها رُميت بكلّ عيب. هذا نفاقٌ منهجي، لا يليق أن يُسمّى تحقيقًا. فإذا ضُمّت إلى ذلك خلفيةٌ سياسيةٌ عميقة: تحالفاتٌ مطوّلة ضد العثمانيين وذاكرتهم، اتّضح لماذا تُستفزُّ أعصابهم كلّما دوّى في الآذان: «فنِعْمَ الأميرُ أميرُها، ونِعْمَ الجيشُ ذاك الجيش».
ويبقى التثبيت الأخير الذي يَختِمُ أبوابَ التشغيب: السلطان محمد الفاتح لم يكن أشعريًّا كما يشيع بعضهم، بل كان ماتريديَّ العقيدة حنفيَّ الفقه، وهذا هو التيّار العقدي الغالب على النُّخَب العثمانية ومؤسساتها، كما تقرّره دراساتٌ أكاديميّة معتبرة وموادُّ علمية متخصّصة، فضلًا عن تقارير فتاوى معاصرة تُصَرّح بذلك. ومن لم يُسعفه العلمُ فليستعن بالإنصاف: إنّ طعنكم في الماتريدية لا يغيّر من حقيقة أنّ واحدًا من أعظم فتوحات الإسلام تحقّق على يد سلطانٍ مَاتريديٍّ وجيشٍ حنفيٍّ، وأنّ نصوص البشارة النبوية قائمةٌ في «الصحيحين» وما سواهما تشهد للفتح وترتّبه، مهما حاولتم تمزيق السلاسل لتفلتوا من دلالتها.
وخلاصةُ القول: حديث «لتفتحنّ القسطنطينية…» ذو أصلٍ راسخ تُقوّيه طرقٌ عدّة، وتنهض به تصحيحاتُ أئمّةٍ وحُسّانُهم، ويُمسكه من أطرافه شاهدُ «مدينة قيصر» في البخاري وبشارة «أيّ المدينتين» في أحمد والحاكم، ونصُّ «بني إسحاق» في مسلم، فليس لكم بعد اليوم أن تُبالغوا في التشكيك إلا إن أردتم التشكيكَ في الصحيحين جميعًا. أمّا نحن، فنقرأهُ كما ينبغي أن يُقرأ: بشارةٌ صدّقتها الوقائع على يد سلطانٍ مَاتُرِيدِيٍّ حَنَفِيٍّ، وجيشٍ سنّيٍّ صاغه علمٌ وفقهٌ وروح، لا شعاراتُ تضليلٍ ولا خطاباتُ كراهية. ومن شاء غير ذلك، فليأتِنا بعلمٍ يوازي هذا العلم، لا بهتافٍ يغطّي عجزَه عن مواجهة التاريخ.