بقلم د.إيمان إبراهيم عبد العظيم مدرس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر – واعظة بوزارة الأوقاف
و هو” لقمان بن ياعور”وقيل بأنّه: ابن أخت نبي الله أيوب عليه السلام، وقيل: بأنّه ابن خالته، وقد كان لقمان من أهل سودان مصر وتحديدًا من قرية نوبة الذين تميزوا بامتلاكهم بشرة سمراء وقدمين مصفحتين وشعرٍ مجعد، واختلفت الأخبار الواردة إلينا عن طبيعة عمله، فمنهم من اعتقد أنّه كان خياطًا، ومنهم من اعتقد بعمله في مهنة النجارة أو الرعي، ويشار إلى أنّه عاش في الحقبة التي عاش فيها سيدنا داوود عليه السلام قبل أن يُصبح نبيًا، وذكر المسعودي أنه ولد على عشر سنين من ملك داوود عليه السلام، ولم يزل باقيًا في الأرض، مظهرًا للحكمة والزهد إلى أيام نبي الله يونس بن متى عليه السلام.
حينما نام لقمان وأفاق حكيمًا قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم : “إن لقمان كان عبدًا كثير التفكر، حسن الظن، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله، فمنَّ عليه بالحكمة “.
جاءنا من التراث قصة تحكي كيف أتته الحكمة حين نودي بالخلافة قبل داود، فقيل له يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق؟ فقال لقمان: إن أجبرني ربي عزَّ وجل قبلت، فإني أعلم أنه إن فعلت ذلك أعانني وعلمني وعصمني، وإن خيرني ربي قبلت العافية ولا أسأل البلاء، فقالت الملائكة: يا لقمان لِمَ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، فيخذل أو يعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفًا ضائعًا، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فغط بالحكمة غطا، فانتبه فتكلم بها.
وقد نال لقمان الكثير من العلم والحكمة على يد سيدنا داوود عليه السلام؛ حتى نال المحبة من الله سبحانه وتعالى الذي وهبه فيضًا كبيرًا من العلم والحكمة، مما خوّله ليكون حكيماً وخليفة لله على الأرض، وقد عرف بلقمان الحكيم؛ والسبب في ذلك يعود إلى شدة حنكته ومهارته في حل المنازعات، حيث إنّه عمل قاضيًا لبني إسرائيل.
ومن القصص التي تدل على حكمته وفطنته الكبيرتين هو أنّه عندما جاء سيده يومًا ب شاة وقال له: (اذبح هذه الشاة وائتني بأطيب مضغتين فيها) فذبحها وجاء بكلٍ من اللسان وكذلك القلب، ثمّ في اليوم التالي قال له سيده اذبح هذه الشاة وائتني بأخبث مضغتين فيها، فأتاه بكل من القلب وكذلك اللسان، فتعجب سيده من ذلك، فما كان من لقمان الحكيم إلا أن قال: (ليس شيئًا أطيب منهما إذا طابا ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثاً)، حينها أمر سيده بتحريره لحكمته وذكائه، وبعد تحررّه قرر الخروج من مصر، والسفر إلى فلسطين، وقد كان ذلك في فترة بعث سيدنا داوود عليه السلام، حيث عمل أجيرًا عنده وقد لاحظ النبي داوود حكمة هذا الرجل، فما كان منه إلا أن عينه قاضيًا على بني إسرائـ يل، ثمّ أصبح فيما بعد قاضي القضاة.
و وصايا لقمان هي إحدى القصص القرآنية التي تتكلم عن حكمة لقمان، وتتمثل في الحكمة التي وهبها الله للقمان الحكيم، وتعد لدى المسلمين من أعظم الحكم والمواعظ، إذ كانت حكمته تأتي في مواضعها، وحسب كتب التفسير أن لقمان كان أهون مملوك على سيده، ولكن الله تعالى منّ عليه بالحكمة فغدا أفضلهم لديه.
ولعل أحد أهم هذه الوصايا قوله لابنه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
ومن أهم الوصايا أيضًا: الإكثار من قول رب اغفر لي؛ لأنّه توجد لله ساعة لا يرد فيها الداعي، مجالسة العلماء ومزاحمتهم؛ وذلك لأنّ الله يحي القلوب الميتة من خلال نور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء.
ومما وعظ به لقمان ابنه أنه نهاه عن ظلم الناس؛ ولو بحبة خردل، فإن الله يسأل عنها ويحضرها حوزة الحساب ويضعها في الميزان : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير)
ثم قال له: ( يَٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ) أي أدها بجميع واجباتها من حدودها وأوقاتها وركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها وما شرع فيها واجتنب ما ينهي عنه فيها.
ومن وصاياه القيمة أيضًا قوله لولده: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) ومعناه: ألا تتكبر على الناس وتميل خدك حال كلامك لهم وكلامهم لك على وجه التكبر عليهم والازدراء لهم، وفي هذا قال أهل اللغة: وأصل الصعر داء يأخذه الإبل في أعناقها فتلتوي رؤوسها فشبه به الرجل المتكبر الذي يميل وجهه إذا كلم الناس أو كلموه على وجه التعظم عليهم.
وتابع يوصيه: (ولا تَمشِ في الأَرضِ مَرَحًا إنّ اللّهَ لا يُحِبُ كُلَّ مُختَالٍ فَخُورٍ) ينهاه عن التبختر في المشية على وجه العظمة والفخر على الناس.
ثم قال له: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) يعني إذا تكلمت لا تتكلف رفع صوتك؛ فإن أرفع الأصوات وأنكرها صوت الحمير.
ومن وصاياه كذلك تجنبّ تأخير التوبة؛ لأنّ الموت يأتي بغتة، وكثرة تذكر الدار الآخرة؛ لأنها أقرب للإنسان من الدار الدنيا؛ فالإنسان يسير نحو الدار الآخرة ويبتعد عن الدار الدنيا.
كما أوصى ولده بتقوى الله سبحانه وتعالى، مع عدم إظهار خشية الله أمام الناس؛ حتى لا يكرموا هذا الإنسان وقلبه فاجر بالله، وألا يتخذ تقوى الله سبحانه وتعالى تجارة؛ حتى يحصل على الربح الوفير دون بضاعة.
كذلك أوصاه بتجنب الديْن؛ وذلك لأنّه ذلٌ في النهار وذلٌ في الليل، وتجنب الكذب، وتجنب الأكل على شبع.