الجزيرة العربية على وشك الاشتعال
10 أغسطس، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال الخامس من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
على عتبة الرحيل:
كانت الليالي الأخيرة في الدرعية تمضي ثقيلة على قلب محمد، لا لأنه يغادر بيت الطفولة فقط، بل لأنه يشعر لأول مرة أن موطئه في هذا العالم صار ضيقًا عليه. لم تعد الجدران القديمة تتّسع لأسئلته، ولا حلقات والده تروي نهمه. صارت الحروف التي طالما ردّدها مكرورة، جوفاء، باردة، كأنها أحاديث موتى. كان كل شيء حوله يشير إلى وجوب الانتقال، لا إلى مكانٍ جديد فحسب، بل إلى طورٍ جديد من الإدراك والتشكّل.
جلس ذات مساء على أطراف النخل في أطراف البلدة، يراقب الغروب الذي لطالما تأمله بصمتٍ طويل. لم يكن مجرد غروب شمس، بل انطفاء مرحلة بأكملها. سمع ذات مرة شيخًا يقول إن لكل عبدٍ سفرتين: واحدة بالأقدام، وأخرى باليقين. وشعر في تلك اللحظة أنه على عتبة كلتيهما. كانت الأرض التي درج فيها منذ ولادته تُخفي عن عينيه بقيّة الصورة، والقلوب التي حوله عاجزة عن مواكبة اضطرام قلبه.
كانت أحاديث السفر قد بدأت تهمس في البيت، وكان الوالد يخطط لإرسال محمد إلى الأحساء، إلى علمائها، إلى مدارسها، إلى رجالاتها الذين يُعرف عنهم رسوخ في الفقه وتضلّع في أصول الدين. لكن محمد لم يكن راغبًا بالعلم الذي يُعلَّم فقط، بل بالعلم الذي يُخاض به غمار التغيير. وكان يظن، أو يتمنى، أن يجد هناك بُغيته. وما كان يدركه في دخيلة نفسه، أن الرحيل ليس بحثًا عن معلّم، بل بحثًا عن حلبة.
في الأيام السابقة للرحيل، بدأ محمد يعيد ترتيب دفاتره، يُمعن في ملاحظاته، يعيد قراءة كتب ابن تيمية وابن القيم كما لو أنه يستعد لمناظرة كبرى. كانت عيناه لا تفارقان صفحات المجلدات، لكنه في كل مرة كان يُمسك القلم، لا ليُقيّد حكمة، بل ليكتب ردًّا. كأنما كان يدرّب نفسه على الجدل، ويُهيئ روحه للهجوم، لا للتعلّم. وكان يُراجع ما كتبه في طفولته، تلك العبارات الأربع التي كوّنت نواته الصلبة:
“لا بد من القضاء على كل ما يُلبّس على الناس دينهم”، “لا تبرير للشرك، حتى ولو نوى صاحبه تعظيمًا لا عبادة”، “لا تقوى مع بدعة، ولا بدعة مع سنّة”، و”لا طاعة إلا لله، ولا سبيل إلا التوحيد الصافي”.
صار يُنقّحها، يضيف عليها، يشتدّ بها، يحمّلها من صرامته ما يجعلها سلاحًا لا حكمة. وكان يراها لا كمبادئ قابلة للنقاش، بل كحدود فاصلة بين الإيمان والكفر، بين النقاء والانحراف.
في تلك الأيام، كانت أمه تراقبه بصمتٍ يملؤه الخوف. لم يكن قلبها مرتاحًا لهذا اللهيب الذي يسكن عيني ولدها. لم تعد تراه فتىً يطلب العلم، بل رجلًا يتقدّم نحو شيء مظلم لا يُرى بعد، شيء يشبه النبوة من بعيد، ويُخفي في داخله نار التكفير. حاولت مرارًا أن تُلين حديثه، أن تُذكّره بالرأفة، بالموعظة الحسنة، بأنّ الله لا يُعبد بالخوف وحده، لكن كلماتها كانت تنكسر أمام صلابته. كانت تراه أكبر من عمره، وأثقل من بيئته، كأنه وُلد ليشعل، لا ليعظ.
في آخر ليلة له، زار محمد المسجد الكبير في الدرعية، الذي كان شاهِدًا على أولى حلقاته. صلى فيه طويلًا، وأطال السجود كما لم يفعل من قبل. لم يكن بكاءً، بل صمتًا غائرًا. كان يُلقي قلبه كلّه في الأرض، كمن يُحمّله المهمة الأخيرة: أن يذهب ليهدم، ليعيد التأسيس. ولما خرج، لم يلتفت وراءه.
وفي صباحٍ مغبر، حمل متاعه القليل، وركب الجمل الذي أعدّه له والده، وسار نحو الأحساء. كانت الطريق وعرة، لكن قلبه كان أصلب. لم يودع أحدًا، لم يتوقف في منتصف الطريق ليراجع قراره. كان يعرف تمامًا ماذا يريد، وإن لم يُفصح عنه. لم يكن يريد علم الأحساء، بل شرعيةً تُلبِس أفكاره ثوبَ السُّنة. وكان على يقين، أن هذا اللباس هو الذي سيمنحه القوة لاحقًا.
هكذا، بدأت الرحلة.
رحلة محمد بن عبدالوهاب إلى الأحساء، التي لم تكن رحلة تلميذٍ إلى أستاذ، بل رحلة نارٍ إلى وقود.
وما إن وطأت قدمه أرض الأحساء، حتى بدأ قلبه يخفق بشيء لم يعرفه من قبل. لم يكن خوفًا، بل توقٌ مكتوم للسيطرة.
وسيكتشف قريبًا، أن طريق التمكين ليس بالضرورة مفروشًا بالعلم، بل بالخلاف.
وما بعد الأحساء، لن يكون كما قبلها.
في مرآة المدينة المنورة:
حين بدأت نيران الرغبة في السيطرة المعرفية تشتعل أكثر في صدر محمد بن عبدالوهاب، لم يكن أمامه إلا أن يهاجر إلى حيث ينضج العلم وتُختبر العزائم. كانت المدينة المنورة، يومها، ملتقى العلماء والفقهاء، وملتقى الطرق الصوفية والمذاهب الفقهية المتنوعة، وهي قِبلة روحية للقلوب، وميدان فقهي للأذهان. هناك، ذهب محمد لا طالب علمٍ فحسب، بل متحيِّنًا فرصةَ الاصطدام، ومُحمّلًا بآراء شبه مكتملة تنتظر التثبيت أو الثورة.
دخل المدينة وفي قلبه نَفَسُ من رأى نفسه على صواب، وفي عينيه بريقٌ من يتوقع السجال. لم يكن متواضعًا، ولا مشتاقًا لأن يُعلِّمه أحد. بل كان يحمل في ذهنه تصورًا عمّا ينبغي أن يكون عليه العالم، وما ينبغي أن تكون عليه الشريعة، وكان ينتظر فقط أن يُقال له: “نعم، أنت على حق”.
في حلقات المسجد النبوي، التقى بشيوخ المذاهب، من الحنفية والشافعية والمالكية، وجلس إلى بعضهم، لكنه لم يلبث أن ضاق بهم. وجد فيهم سعة لا يحتملها، ومرونة في التأويل يراها تهاونًا، وميلاً إلى التوفيق بين المختلفات، يعتبره خيانةً للحقيقة. ذات مساء، دار حوار بينه وبين أحد شيوخ المالكية، وكان ذلك الحوار كاشفًا لِما يعتمل في نفسه:
قال الشيخ بلين: “يا بني، قد اختلفت الأمة في مسائل كثيرة، وأجمعوا على أن الخلاف في الفروع لا يُفسد للود قضية”. فأجابه محمد، بصوتٍ لم يخلُ من حدة: “لكن ما يسميه الناس فروعًا هو أصل الدين، إن لم يُفصل فيه بوضوح، فسد التوحيد، وضل الناس”. ابتسم الشيخ، وقال: “ما كل الناس يستطيع أن يرى بهذا الوضوح يا بني، ولا كل قلب يحتمل القسوة باسم التوحيد. لله في خلقه سنن، وفي دينه رحمة”.
لم يُعجب محمد بتلك الإجابة. رأى فيها ترفًا صوفيًا لا يليق بصرامة الدين، وشعر أن الشيخ يهرب من المواجهة. ولأول مرة، أحس بأنه ليس غريبًا عن الدين فقط، بل عن أهله أيضًا.
وفي المدينة، لم تكن الكتب أقل من الناس استفزازًا له. وجد كتبًا في التصوف تزدهر على رفوف الطلبة، وقراءتِها لا تُعدّ بدعةً بل فضيلةً. ووجد شيوخًا يتحدثون عن تجاربهم مع “الخلوة” و”المجاهدات”، ويذكرون أسماء مثل السهروردي، والجيلاني، وابن عربي. كل تلك الأسماء، كانت في عقل محمد رموزًا لضياع العقيدة، وتحويل التوحيد إلى طلاسم.
مرة، سمع أحد الشيوخ يتلو قول ابن عربي: “الخلقُ حقٌ والحقُّ خلقٌ”، فانتفض قلبه. لم يتحمّل. وقف بعد المجلس، واتجه نحو الشيخ وقال له بصوتٍ يكاد يسمعه الجميع: “أتؤمن بهذا الكلام؟ أتزعم أن الله والعبد شيء واحد؟” فقال الشيخ، بهدوء: “ابن عربي قالها في سياق حال، لا في سياق اعتقاد، وليس كل ما يُقال يُؤخذ على ظاهره”.
كان الرد أشبه بسكب الزيت على النار. لم يكن عقل محمد يقبل الرمز ولا المجاز. لم يكن يؤمن إلا بالحرف، والحرف عنده إمّا حقٌ أو باطل. لا منزلة بين المنزلتين.
في تلك الأيام، اشتدت عزلته الداخلية. صار يخرج وحده إلى البقيع، يتمشى بين القبور، يتفكر في الموت، ويحدّث نفسه عن حال المسلمين: “ضاعت الأمة، بين الصوفي والرافضي والمقلّد. لم يبقَ للتوحيد إلا حفنة من الكلمات المطمورة”. ثم يُسرع بالعودة إلى غرفته، ويكتب بخطٍّ شديد: “الدين الحق واضح، من لبّسه الناس فقد كفر بنعمة البيان”.
وبينما كانت المدينة تستقبله بهدوءها التاريخي، وتسامحها العلمي، كان هو يتجهز لإعلان الثورة من داخلها. لم يعد طالب علم، بل أصبح ناقدًا غاضبًا، ينتظر أن تنضج حججه حتى يعود بها ليُغيّر وجه الأرض. وكان كل اختلاف يصادفه، يزيده يقينًا أن عليه أن يحمل سيفًا، لا قلمًا، في الإصلاح.
ثم جاء اليوم الذي زاره فيه أحد تلاميذ والده، وكان شيخًا وقورًا، قد سمع عن تغير محمد، فأراد أن يناصحه. جلس معه بعد العشاء، وقال له بلطف: “يا محمد، لقد سمعنا عن شدتك في المسائل، وعن ضيقك بالخلاف. ألا تعلم أن النبي – صلى الله عليه وسلم – جاء بالتيسير، وأن في الناس من لا يستطيع أن يتحمّل هذه الصرامة؟”
قال محمد: “بل أعلم أن النبي قاتل المشركين، وهدم الأصنام، ونفى من المدينة من نافق، ولم يُساوم على دين الله. وما التيسير إلا في السنن، أما التوحيد فلا يُتهاوَن فيه”.
قال الشيخ: “لكن يا بني، الناس درجات، وأنت لا تُبلّغ الحق إذا قطعت قلوبهم قبل أن تبلغ عقولهم”.
فأجاب محمد بجفاء: “الحق لا يُبلّغ بالعاطفة. بل يُلقى كالسيف، ومن قبله نجا، ومن كرهه، فعليه وزره”.
تركه الشيخ، وفي قلبه وجع، وقال في نفسه: “هو لا يريد أن يكون عالمًا، بل حاكمًا باسم الدين”.
وبعد أسابيع قليلة، بدأت الأحاديث تدور حول محمد بين أهل المدينة، بعضهم قال إنه متحمّس سيهدأ، وبعضهم قال: “في قلبه نار، يخشى أن تحرق”. وأوصاه بعض الشيوخ أن يسافر إلى مكة، ليرى هناك من هم أعلم وأرحم.
ورأى محمد أن المدينة ضاقت عليه، كما ضاق هو بها. فقرّر أن يغادر.
كان يحمل معه دفاتره، وأفكاره، وكراهيته لكل شيء لا يُشبهه. كان يسير في طرقات المدينة وكأنه يغادر ميدانًا خاسرًا، لا لأنه هُزم، بل لأنه لم يجد من يواجهه كما أراد.
وعلى مشارف المغادرة، كتب بخطه العريض:
“لقد رأيتُ في المدينة علمًا كثيرًا، ولكن قليلًا منه يُرضي الله. فالعبرة ليست بكثرة الشيوخ، بل بنقاء التوحيد”.
وغادر.
لكن نيران الفكرة بدأت تشتعل أكثر… ولم يكن قد دخل المعركة بعد.
وسيدخلها قريبًا، لا بالسؤال، بل بالاتهام، لا بالدعوة، بل بالتكفير.
بوّابة الانفجار :
حين غادر محمد المدينة متجهًا إلى الأحساء، كانت الرياح قد بدأت تعصف في داخله أكثر من خارجها. لم يعد ذاك الفتى المتوتّر، التائه بين وجوه الفقهاء، بل صار كمن يحمل مشروعًا مؤجَّل التنفيذ، مشروعًا سيستمد جذوته من قلب الحيرة التي مرّ بها، ويصهرها في نار الاعتقاد الصلد. كانت الأحساء، بمذاهبها المتعددة، وتنوعها الديني، ونقاشاتها اللاهوتية الصاخبة، أشبه بساحة اختبارٍ لقدراته الفكرية التي باتت مشبعة بالحدّية. هناك، سيقابل خصومه، ويصقل فكرته، وربما — دون أن يدري — يخطو خطواته الأولى نحو إعلان الحرب على كل ما لا يشبهه.
دخل الأحساء وهو في بدايات شبابه، يحمل عصا السفر، ومخطوطة ابن تيمية مطوية في عباءته، ونظرة مشتعلة تترقب اللحظة التي يُدعى فيها للمجادلة. لم يكن طالبًا كسائر الطلبة، بل كان أشبه بمن يبحث عن منافس، عن فريسة فكرية يثبت عليها هيمنته. وفي أول مجلس دخله، في جامع الكوت الكبير، جلس بين طلبة العلم، وأخذ ينصت إلى الشيخ الحنفي وهو يشرح مسألةً في التوسل، فرفع يده في أدبٍ مفتعل، وسأل:
– يا شيخ، وهل يجوز التوسل بغير أسماء الله الحسنى؟
صمت الشيخ برهة، ثم أجاب: «جاء في الأثر أن المتوسلين بالصالحين مرجّو الإجابة، وهذا من باب تعظيم أهل الفضل.»
فابتسم محمد ابتسامة لم تفارقه أبدًا منذ تلك اللحظة، ثم قال بصوتٍ رخيم لكنه صارم: «بل هو من الشرك، إن لم يكن في أصله ففِي صورته.»
عمّ الوجوم المكان، وبقي الشيخ صامتًا، لكن محمد كان قد قرر أن تلك المعركة الفكرية لن تُؤجَّل. بدأ يخرج كتبه، يكتب رسائل قصيرة، ويجادل الحنابلة والحنفية، ويناقش الزيدية الذين استقروا في أطراف المدينة. لم يكن يسعى إلى فهمهم، بل إلى إسكاتهم. وشيئًا فشيئًا، بدأت سمعته تنتشر: شابٌ جافّ، لا يقبل التأويل، يرى في مخالفيه شركاء للشيطان.
كان ذلك يُرضيه. بل كان يشعر بنشوةٍ عميقة كلما انفضّ حوله جمعٌ بسبب حدّته. لم يكن يسعى للتقريب، بل للفرز. أحب أن يكون على الضفة الأخرى. وفي إحدى المرات، دعاه أحد شيوخ المدينة للمبيت في داره، فقبل، لكن الحديث الذي دار بينهما تلك الليلة سيكون فارقًا.
قال الشيخ المضيف: «يا بني، إن الله وسِع رحمته كل شيء. وما خُلقنا لنتعسّف في دينه.»
ردّ محمد، وهو يحدّق في نور الفانوس: «بل خُلقنا لنعبد الله كما أراد، لا كما يهوى الناس.»
ابتسم الشيخ، وقال بلطف: «لكنّك تُكثر من تكفير المسلمين، وتُضيق ما وسّعه الله.»
هنا تغيّرت ملامح محمد، ورفع رأسه قائلاً: «إنما أنا أنكر الشرك، وما الشرك عندي إلا أن يُصرف شيءٌ من العبادة لغير الله. وهل في الدنيا شيءٌ أخطر؟»
فسأله الشيخ: «وهل ترى أن الأمة كلها على ضلالة؟»
فأجابه بصوتٍ خافت، كأنّه يحدّث نفسه: «بل أراهم قد تركوا التوحيد الحق. وأنا سأعيده.»
وفي تلك الليلة، لم ينم محمد كثيرًا. ظلّ يقلب في عقله تفاصيل المجادلة، ويُعيد ترتيب المسائل، ويكتب ملاحظاته على أوراق متناثرة. كتب: “التوسل شرك. زيارة القبور شرك. دعاء غير الله شرك. تقبيل الأضرحة شرك. والساكت عن الشرك مشركٌ مثله.” كانت تلك العبارات، التي سيُطلقها لاحقًا في دروسه وكتبه، قد بدأت تتكوّن على مهل، كما يتشكّل الجمر تحت الرماد.
ثم جاء اليوم الذي أدرك فيه أنه لم يعد طالب علم، بل خصمًا. خرج من الأحساء، لا بشهادة علم، بل بنية حرب. لم يعد يحمل همّ التعلّم، بل همّ التنقية. في عودته إلى العيينة، كان كل ما يراه يمرّ تحت مرشّح الشك: الأسواق، المساجد، المقابر، حتى أحاديث النساء في الأفنية.
وفي الطريق، صادف قافلة حاجّة قادمة من العراق، فسأل أحد ركّابها عن أحوال النجف. فردّ الرجل: «الناس هناك يزورون قبر عليّ ويستغيثون به.»
ـ تشنّج محمد، وأشاح بوجهه، ثم همس: «بل يستغيثون بمن لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا. ووالله، ما هذا إلا ما كانت عليه قريش!»
ـ عاد محمد إلى نجد، لا وهو ذاته. لم يعد ذاك الفتى المُندهش، بل الشاب الغاضب، الموقن بأن الله أرسله في زمنٍ كثرت فيه البدع، وقَلّ فيه التوحيد. صار يُبشّر بدعوته بصوتٍ خافت في البداية، ثم علني، يدعو للتوحيد «الصافي»، ويدعو لهدم القباب، وتحطيم التمائم، وترك الاحتفال بالمولد، والتوقف عن دعاء الأولياء.
ـ واجهه الناس بالدهشة، وبعضهم بالرفض، وبدأت تظهر التهديدات، ثم المُناظرات. وذات يوم، دخل أحدهم عليه وقال له: «شيخ محمد، لقد أغضبت الفقهاء وأرباب الطرق، فاحذر.»
فردّ وهو مبتسم: «والذي بعث محمدًا بالحق، لن أترك قول الحق، وإن غضب من في الأرض جميعًا.»
ومن تلك اللحظة، صار محمد بن عبدالوهاب مشروعًا كاملًا، لا ينقصه إلا السلطان.
وكانت النار في عروقه قد بلغت الحلقوم.
وكانت الجزيرة كلها، على وشك أن تشتعل.