التمذهب الفكري بين العقل والهاوية: قراءة في خطورة الغلو وغياب الوسطية

بقلم: الشيخ : يوسف عزت الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

تمهيد: الفكرة حين تتحول إلى قيد

الفكر هو أداة الإنسان لفهم الوجود، ووسيلته لبناء رؤيته للعالم والحياة. لكن هذه الأداة قد تنقلب عليه إذا تحولت من وسيلة للبحث والتأمل إلى سجن يحاصره بقيود التعصب والانغلاق. هنا، لا يعود الفكر محررًا بل يصبح مذهبًا جامدًا، وإذا خلا هذا التمذهب من الاعتدال والوسطية، قاد صاحبه إلى الغلو، وألقى بالمجتمع في أتون صراعات لا نهاية لها.

إن أخطر ما يصيب الأمم في مسيرتها الفكرية هو أن تتحول إلى طوائف فكرية تتقاتل، لا لأن الحق متعدد، بل لأن العقول باتت غير قادرة على استيعاب التعدد. لذلك، لا بد من مناقشة التمذهب الفكري بعمق، وفهم مخاطره، ومآلاته، ووسائل الوقاية منه.

أولًا: ماهية التمذهب الفكري، وحدوده المقبولة
التمذهب الفكري ليس دائمًا مذمومًا؛ فالانتماء لفكرة أو مدرسة فكرية قد يكون ضرورة في تنظيم النظر، وشحذ الرؤية، وتحقيق التماسك الذهني. فكما أن الإنسان لا يمكنه أن يفكر في كل شيء من الصفر، فهو بحاجة إلى مرجع، أو “إطار عام”، ينطلق منه في تأملاته.

لكن الإشكال يبدأ حين يتحول هذا الانتماء إلى قداسة مطلقة للفكرة، وتعصب أعمى للمذهب، ورفض قاطع لأي طرح مغاير. هنا يتجاوز التمذهب حدّه المشروع، ويصير انغلاقًا فكريًا وخروجًا عن مقاصد العقل والدين.

ثانيًا: مظاهر التمذهب غير المعتدل في واقعنا المعاصر

1. تقديس الأشخاص بدل الأفكار
البعض لا يتبع الفكرة لذاتها، بل يتبع من قالها، حتى لو خالفت العقل والنقل. وهذا النوع من الولاء يتحول إلى “شخصنة” للفكر، ويعمي الإنسان عن النقد والمراجعة.

2. العداء للمخالف
حين يصبح الاختلاف جريمة، والمخالف خائنًا أو زنديقًا أو عميلًا، فإن الفكر قد فقد جوهره، وصار مجرد أداة للتحريض والتصفية.

3. الانتقائية في القراءة والتأويل
المتعصب لا يقرأ إلا ما يؤيد فكرته، ويقصي أي نص أو قول يخالفه، ويؤول النصوص بما يخدم مذهبَه ولو خالف السياق والمقصد.

4. رفض التجديد والاجتهاد
يرى المتعصب أن كل جديد بدعة، وأن كل اجتهاد هو خيانة لتراث السلف، فيغلق أبواب الاجتهاد، ويصادر الفكر، ويجعل من الدين “متحفًا” لا “رسالة حياة”.

5. الانغماس في الصراعات الفكرية الثانوية
يهتم بالتفاصيل والجزئيات، ويهمل القضايا الكلية الكبرى. ويتحوّل إلى مجادل دائم في النقاط الخلافية، بدل أن يكون فاعلًا في حل أزمات الواقع.

ثالثًا: الجذور النفسية والاجتماعية للتعصب الفكري

1. الخوف من المجهول
الإنسان الذي لم يتعوّد على التعدد والتنوع، يخشى الخروج من “منطقة الأمان الفكري”، فيتمسك بمذهبه بوصفه الملاذ الوحيد، ويعتبر أي رأي آخر تهديدًا وجوديًا.

2. الجهل المعرفي
من لم يطلع على التنوع المعرفي والتراث المتعدد، يصعب عليه قبول أن هناك أكثر من طريق للحق، وأن الاختلاف قد يكون رحمة لا نقمة.

3. الرغبة في الانتماء
بعض الناس يحتاجون إلى هوية ينتمون إليها، وقد يجدون في المذهب أو التيار الفكري حضنًا نفسيًا يغنيهم عن مواجهة تعقيدات الواقع. هذا الانتماء قد يتحول إلى نوع من “الولاء العقائدي” الذي يعمي عن النقد والمراجعة.

4. الاستغلال السياسي أو الإعلامي
بعض القوى توظف التمذهب الفكري لتحقيق مكاسب سلطوية، أو لتأليب فئات المجتمع على بعضها. فتضخم الفروقات، وتزرع الكراهية، وتدفع بالناس إلى الغلو والتشدد.

رابعًا: النتائج الكارثية للتمذهب غير المعتدل

1. تمزيق الوحدة المجتمعية
يتحوّل المجتمع إلى كانتونات فكرية متصارعة، حيث يُنظر إلى الآخر لا كشريك في الوطن أو الدين، بل كخصم يجب إقصاؤه أو تقزيمه.

2. تدمير الحياة السياسية والديمقراطية

التمذهب غير المعتدل لا يقبل التعدد، ولا يعترف بالحوار، وبالتالي يعيق بناء دولة ديمقراطية تقوم على تداول السلطة، واحترام الرأي الآخر.

3. نشر ثقافة الكراهية

يُعاد تشكيل الخطاب العام بلغة استعلائية، تَصِم الآخر بالضلال أو الخيانة، وتبث في النفوس الحقد بدلًا من الفهم والتسامح.

4. توليد التطرف الديني أو الأيديولوجي

جميع الحركات الإرهابية والتكفيرية هي – في جوهرها – تمذهبات فكرية مفرطة، خرجت من رحم انغلاق، ونشأت في بيئة خالية من الاعتدال والرحمة.

5. فقدان الثقة في الدين أو الفكرة نفسها

حين يقترن الفكر بالغلو والتشدد، ينفر الناس منه، وتُساء إلى الدين الذي يُظن أنه مصدره، بينما هو بريء منه تمامًا.

خامسًا: نماذج من التاريخ توضح مخاطر التمذهب

1. الخوارج في العصر الإسلامي
رفعوا شعار “لا حكم إلا لله”، فكفّروا الصحابة، وقتلوا المسلمين، وهم يظنون أنهم على الحق، لأنهم فهموا النص خارج مقاصده وسياقه.

2. الصراعات بين المدارس الفقهية
في بعض فترات التاريخ الإسلامي، انقلب الخلاف الفقهي إلى صراع طائفي، حتى أن أتباع مذهب معين منعوا الآخر من الصلاة في المساجد المشتركة.

3. الاستبداد باسم العقيدة
كثير من الأنظمة القمعية عبر التاريخ استغلت المذهب الديني أو القومي لتبرير القمع والإقصاء، مثل محاكم التفتيش في أوروبا، أو الجماعات التكفيرية المعاصرة.

سادسًا: كيف نعيد الاعتدال إلى الساحة الفكرية؟

1. نشر ثقافة الاختلاف
التربية منذ الصغر يجب أن تُدرّب العقل على أن “الاختلاف لا يعني العداء”، وأن الآخر قد يكون مُخطئًا لكنه ليس شريرًا.

2. تعزيز فقه المقاصد
التركيز على “المقاصد الكبرى” في الشريعة (العدل، الرحمة، المصلحة، حفظ النفس والعقل والدين…)، بدل الغرق في فروع يساء فهمها.

3. الانفتاح على المدارس الفكرية الأخرى
ليس من ضعف أن نقرأ لغيرنا، بل من الضعف أن نظن أن الحق محصور فينا فقط.

4. إحياء دور العلماء الوسطيين
العلماء الربانيون المعتدلون هم صمّام الأمان الفكري، ويجب أن يتصدروا المشهد، لا أن يُقصوا لصالح المتشددين أو المنفلتين.

5. بناء خطاب ديني عقلاني
ينطلق من القرآن والسنة بفهم راشد، ويراعي العصر، ويبتعد عن التشنج، ويركّز على الرحمة والعدل لا العقاب والعنف.

خاتمة جامعة: الإسلام بين التعدد والتعصب

الإسلام دينٌ واسعٌ رحب، لم يأتِ ليحاصر العقول، بل جاء ليحررها. والاختلاف سنة من سنن الله في الخلق، لا ينبغي أن يكون مدخلًا للتباغض، بل مدعاة للتكامل والنمو. والتمذهب الفكري حين يكون مرنًا متزنًا، يخدم الفهم والنضج، لكنه حين ينحرف عن الاعتدال، يتحوّل إلى كارثة أخلاقية، ومعول هدم.

وقد قال الإمام مالك:

> “كلٌ يؤخذ من قوله ويُرد، إلا صاحب هذا القبر” (وأشار إلى قبر النبي ﷺ)

فلنَعد إلى الجذور، إلى ميزان القرآن، إلى “سماحة محمد” ﷺ، إلى “علم الأئمة” و”حكمة العلماء”، ولنرفع شعار:
“الحق أوسع من أن يحتكره مذهب، وأسمى من أن يختطفه غالٍ أو جاهل.”