المغالاة واللامبالاة من وجهة نظر إسلامية

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

في ميزان الإسلام، يُعدّ التوازن والاعتدال ركيزة من ركائز الدين، فهو دينٌ يرفض الإفراط والتفريط، ويُحذِّر من الغلوّ كما يحذِّر من الإهمال واللامبالاة. وتُعدّ المغالاة في الأقوال أو الأفعال، واللامبالاة في أداء الواجبات والمسؤوليات، من السلوكيات المذمومة التي تُفضي إلى فساد المجتمعات وتضييع الحقوق، وتناقض ما أمر به الله ورسوله.

لقد ورد التحذير من الغلوّ في النصوص الشرعية، فقال النبي ﷺ: “إياكم والغلوّ في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين” (رواه النسائي). وهذا الحديث ليس مقصورًا على العبادات فقط، بل هو قاعدة عامّة تُحذّر من تجاوز الحدود في كل شيء: في المشاعر، في الأحكام، في الإنفاق، في العادات، في الزواج، وحتى في محبة الأشخاص أو كراهيتهم. فالمغالاة تؤدي إلى التطرف، والتطرف يولِّد الكراهية والعنف وسوء الظن، وقد يُفضي إلى قطيعة بين الأحبة أو تنفير الناس من الحق.

وعلى الجهة المقابلة، فإن اللامبالاة هي نوع من التبلد القلبي والتقصير العقلي، وهي صورة من صور ضعف الإيمان. حين يرى المسلم الظلم ولا يهتم، أو يرى المنكر فلا يُنكره، أو يضيع الصلاة دون ندم، أو يُقصِّر في حق زوجته وأولاده أو في عمله ووظيفته دون اكتراث، فهو بذلك يفرّط في أمانته. وقد قال رسول الله ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري ومسلم). فالمسؤولية في الإسلام ليست اختيارية، وإنما هي تكليف ومحاسبة.

المغالاة واللامبالاة، كلاهما وجهان لعملة واحدة تُسمى بـ”عدم التوازن”. فالأول يضغط على النفس حتى يرهقها، ويجعل الدين ثقيلًا على الناس، والثاني يُفرِّط في الدين حتى يفقد الإنسان بوصلته. الأول يحمِّل الناس فوق طاقتهم، والثاني يتخلَّى عن كل طاقة وجهد.

وتبدو آثار المغالاة واللامبالاة جلية في حياتنا اليومية؛ فترى مَن يُغالي في تجهيزات الزواج حتى يغرق في الديون، وترى من يبالون في إنفاق أموالهم ببذخ على المظاهر، بينما يغفلون عن جيرانهم الفقراء. وتجد من يُغالي في عقوبة ابنه الصغير على خطأ بسيط، فيقسو قلبه وتضيع العلاقة، وتجد من لا يبالي أصلاً بتربية أبنائه ويتركهم للشاشات والتشتت دون توجيه.

وفي تعاملنا مع القضايا العامة، نجد من يُغالي في تأييد موقف معين إلى حدّ التخوين والشتائم لمن يخالفه، ومن لا يبالي أصلًا بما يجري حوله من ظلم أو فساد أو أزمات، ويعيش في عزلة فكرية وروحية.

الإسلام يدعونا إلى “القصد”، أي العدل والاعتدال في كل شيء، ويحثّنا على أن نكون أمناء على أنفسنا وعلى من حولنا، لا نُحمّلهم فوق طاقتهم، ولا نتركهم يضيعون بسبب إهمالنا. قال الله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطًا” [البقرة: 143]، فالمسلم الحق هو الذي يتوسط في كل شأن، متجنبًا شطط المغالين وبلادة اللامبالين.

وهنا تأتي مسؤولية الشباب في الأمة الإسلامية بوصفهم وقود المستقبل، وحَمَلة راية الإصلاح الحقيقي. إننا في زمن كثرت فيه المغريات، وسهلت فيه سُبُل اللهو واللامبالاة، وارتفعت فيه أصوات التطرف والمغالاة التي تتخفى أحيانًا خلف شعارات دينية أو وطنية، لكنها في حقيقتها تبتعد عن روح الإسلام وسُـنّة نبيه الكريم. فالشباب هم عماد التغيير، وعليهم أن يدركوا خطورة الوقوع في أحد طرفي الانحراف: الإفراط أو التفريط، المغالاة أو التهاون.

على الشباب أن يعي أن الإسلام لا يطلب منهم أن يكونوا رهبانًا في المساجد، ولا أن يكونوا عابثين في الشوارع، بل يطلب منهم أن يكونوا طاقة بناء، وأداة توازن، وسيفًا للحق، ورحمة للعالمين. عليهم أن يجمعوا بين العلم والعمل، بين العاطفة والعقل، بين التدين الحقيقي والانفتاح الواعي، بعيدًا عن التشدد القاتل أو الإهمال القاتل.

إن شباب الأمة اليوم مدعوون لأن يكونوا نموذجًا للفهم الصحيح للدين، والفكر المعتدل، والموقف المسؤول، وأن يحذروا من أن يصبحوا أدوات في أيدي المغالين أو اللامبالين الذين يُفرغون الدين من جوهره أو يشوهونه بتطرفهم أو تسيبهم. فكم من شاب انجرف خلف دعوات الغلو فظن نفسه على الحق وهو في عمق الباطل، وكم من شاب انساق وراء اللامبالاة حتى ضيّع دينه ودنياه وأهله ونفسه.

فلنعد شبابنا إلى روح الإسلام النقي، إلى فهم الصحابة والتابعين الذين جمعوا بين العبادة والعمل، بين الجهاد والعلم، بين الحياء والحكمة. ليكن شعارهم: لا مغالاة تهدم، ولا لامبالاة تفسد، بل وسطية تصلح وتبني. وإذا صلح الشباب، صلحت الأمة، وإذا توازنوا، نهضت المجتمعات، وإذا وعوا مسؤوليتهم، تغيّر حال الدنيا بأسرها.

فليكن لكل شاب وشابة في أمتنا سهمٌ في دفع المغالاة، وموقفٌ حازم ضد اللامبالاة، ووعيٌ نقي يميز به بين الغلو والحق، وبين التراخي والخير. فالإسلام أمانة، والدين مسؤولية، والعمر قصير، والمستقبل يُبنى اليوم لا غدًا.

بهذا الوعي، وبهذا الاعتدال، وبهذا النهج النبوي العظيم، نرتقي، ونتعافى من أمراض العصر، ونحقق للأمة ما ترجوه من مجد وعز وكرامة.