حينما تكون القنوات الإخبارية معول هدم وتهييج القطيع على العلماء

بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو
( الأزهرى البابي الحلبي )

من ذا الذي خوّل القنوات أن تكون وصية على الأزهر؟!

ومن ذا الذي منحَ إعلام التهييج رخصةَ القضاء والحكم على العلماء وكأنهم قادة جيوش أو وزراء دفاع؟!

إنَّ من أقبح ما رَزِئت به أمتُنا، أن يكون الميكروفون بيد الرعاع، والكلمة بيد الجاهل، وأن تُطرح قضايا الأمة على موائد العبث الإعلامي، لا ابتغاءَ إصلاح، بل تهييجًا للقطيع، وتنفيرًا من العلماء، وتوهينًا للثقة بكل مرجعية.

فإذا تكلم عالمٌ من علماء الأزهر بكلمة، قامت الدنيا ولم تقعد، ولو نطق بها وافدٌ وهابيٌّ أو علمانيٌّ مستأجَر، مرّت كأنها نسمةٌ صيفيةٌ في جوف صحراء.

وإذا سكت الأزهر عن فتنةٍ تَجاذبَتْها الأهواء، قيل: “أين العلماء؟”، وإذا تكلم، قيل: “لماذا تسيّسون الدين؟!”

كأنما الأزهر ما هو إلا مؤسسة عسكرية، تُكلَّف بالتحرك بقرار، وتُحاسَب إن لم تغزُ أو تُقاتل!

لقد كان الأزهر في ما مضى قِبلةً للعلم ومأرزًا للحكمة، وكانت كلمته توقظ الغافلين وتحرك الساكنين، لا بقوة السلاح، ولكن بقوة العلم، ومكانة الصدق، وسلطان الأخلاق.
لكن الأنظمة التي تعاقبت، لم تكن تخشى شيئًا كما تخشى الكلمة إذا خرجت من فم صادقٍ عالم، فعملت على تفكيكه لبنةً لبنة.

ولم تكن هذه الأنظمة وحدها، بل شاركها في الهدم فصيلان:
وهابيةٌ تدّعي العودة إلى السلف، وهي أبعد الناس عن فقههم،
وعلمانيةٌ تنكر كل ما يتصل بالدين، وتريد قطع السلسلة من أولها.

وهكذا، حين انفض الناس عن الأزهر، لم يكن ذلك عجزًا في الأزهر، بل جهلًا بقيمته، وجهلُ الناس بالحق لا يُلغي كونه حقًا.
وإذا فَقَدَ العالم أنصاره، فلا تلومنّه إن سكت، فإن من يتكلم في مثل هذه الأيام، يُترك وحيدًا في الميدان، يتلقّى الضربات وحده، والساكتون هم أول من يلومه حين لا يُدافع عنهم!

لقد شهدنا الأزهر واقفًا مع قضايا الأمة، كما فعل في غزة، وحينها لم نرَ من المنتقدين أحدًا يرفع له راية الثناء، ولكن ما إن يُشتَم من رائحة موقفٍ لا يعجبهم، حتى يسلقوه بألسنةٍ حداد.
كأنَّ الأزهر موقوفٌ على أن يُرضي كل نزوة إعلامية، وكل طيف من أطياف الغوغاء!

ومن سخريات الواقع، أن يُنصِّب بعض المتفيهقين أنفسهم أوصياء على الأزهر، أمثال من يعيش في ظل حكومة لا تسمح له بنقدها، ولا بمواجهة ظلمها، ثم يطالب الأزهر بالمواقف “المشرفة”!

أيُّ شرفٍ أعظم من أن يقف العالم بكلمة حقٍ في وجه سلطان جائر، وهو يعلم أن لا جهة تدعمه، ولا سند يحميه، وأن المصير ـ بجرة قلم ـ قد يكون فصلاً، أو محاكمة، أو تشريدًا؟!

ومع ذلك، تجد من يعيّر العلماء بأنهم لا يتكلمون إلا في الحيض والنفاس، وكأن أحكام الدين أصبحت سُبّةً عند قومٍ ما عرفوا إلا السخرية سبيلًا.
وهل الحيض والنفاس إلا جزءٌ من دينٍ يضبط حياة البشر من النطفة إلى المنيّة؟!

العلماء ـ يا هؤلاء ـ ليسوا موظفين عند رغباتكم،
ولا خطباء منبرٍ يُؤجَّرون لساعتين كل أسبوع،

هم رجالٌ عاشوا حياةً من الشدة والضيق، طلبوا العلم بأموالهم، واحتملوا ظلم السلطات، وتربص الأجهزة الأمنية، وسفه الإعلام، وشتيمة المتفيهقين.
لا تأمين، ولا استقرار، ولا سند، ولا رُكن يأوون إليه.

ومع ذلك، تجدهم يُستفتَون في منتصف الليل، ويُرجع إليهم في أدق المسائل، ويقصدهم الناس في الملمات، ثم لا يسلمون من ألسنة من لا يعرف قدرهم!

أما آن لهذه الأمة أن تدرك أن العالم ـ في هذه الأيام ـ هو الحلقة الأضعف؟
يتكلم حين لا ينطق أحد، ويسكت حين يكون السكوت هو أهون الشرين، لا خوفًا على نفسه، بل حرصًا على دماء الأمة وأمنها.
فإن لم تستطيعوا مناصرتهم، فبالله عليكم كفوا ألسنتكم عنهم، واتركوا لهم مساحتهم ليعملوا بما تطيقه أيديهم.

ما مرَّ على هذه الأمة يومٌ ضُيّق فيه على العلماء كما يُضيَّق عليهم اليوم.
ولكنهم صابرون محتسبون، لا يشكون، ولا يبيعون، ولا يساومون.
فمن لم يقف معهم، فليدعُ لهم، أو ليسكت عنهم، فهذا أقل الوفاء.