
خطبة بعنوان ( أهمية الوقت في حياة المسلم )
للدكتور :محمد جاد قحيف
الحمد لله مقدر الأيام والشهور ، ومصرف الأعوام والدهور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الشكور ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ﷺ بعثه الحق سبحانه بالهداية والنور اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور ..وبعد:
فقَدْ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِالْوَقْتِ اهتماماً بالغاً، و لأهمية الوقت وضرورة استثماره أقسم الله عز وجل به في غير آية في القرآن الكريم ، ومن ذلك : قوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ [العصر: 1، 2]، وقال: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 1 – 4] وقال:﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2] وقال:﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا *وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴾ [الشمس: 1 – 3]، فأقسم بالعصر وبالفجر وبالضحى وبالنهار وبالليل، والله عز وجل يقسم بما شاء من خلقه ؛ ليلفت انتباهنا إلى أهمية هذه الأوقات وضرورة استثمارها..
كما اهتمت السنة النبوية المطهرة كذلك بالوقت اهتماما كبيرا ، وأشار النبي ﷺ إلى ضرورة اغتنام الوقت فقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كَمَا فِي الصَّحِيحِ: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ”، فَالْخَاسِرُ وَقْتَهُ مَغْبُونٌ كَالَّذِي يَبِيعُ سِلْعَتَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا تَسْتَحِقُّ، أَوْ يَشْتَرِيهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّ..
وَلَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِيهَا!، وَمِنْ أَوَّلِ مَا يُسْألُ عَنْهُ الْعبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْوَقْتُ؛ “لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ: عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَا فَعَلَ؟، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ؟، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟”(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ)، وَقَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ”(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وصححه).
وَلَقَدْ فَرَّطَ الْكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ فِي أَوْقَاتِهِمْ؛ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِ عَدَمِ إِدْرَاكِهِ لِقِيمَةِ الْوَقْتِ، وَبَعْضُهُمْ بِسَبَبِ التَّكَاسُلِ وَالتَّسْوِيفِ ، وَهُمَا سِلَاحَانِ قَاتِلَانِ لِأَوْقَاتِ النّاسِ، وَبَعْضُهُمْ بِسَبَبِ الصُّحْبَةِ السَّيِّئَةِ؛ فَالرَّفْقَةُ السَّيِّئَةُ تَعْمَلُ عَلَى قَتْلِ دِينِ وَأَخْلَاقِ وَأوْقَاتِ أَصْحَابِهِمْ، وَنَحْنُ فِي الْإِجَازَةِ، فَفُرْصَةٌ لِلْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ لاسْتِثْمَارِ أَوْقَاتِهِمْ، وَالسَّيْرِ عَلَى نَهْجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبهِمْ وَطَرِيقِهِمْ ، يُبَادِرُونَ إِلَى اسْتِغْلَالِ أَوْقَاتِهِمْ..
العنصر الأول :حسن اغتنام السلف للاوقات
لقد كان سلف أمتنا الصالح يعمرون أوقاتهم وحياتهم بذكر الله وسائر الطاعات ، فكانوا أحرص الناس على أوقاتهم، يستغلون كل لحظة في أوقاتهم، فيملؤونها بالطاعة والخشية من الله تعالى، اعتقادا منهم أن من علامة المقت إضاعة الوقت..
قَالَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “يَا عُمَرُ! اعْلَمْ أَنَّ للهِ عَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ للهِ عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ”, وَيَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمِ غَرَبَتْ شَمْسُه؛ نَقَصَ فِيهِ أَجْلِي، وَلَمْ يَزْدَدْ فِيهِ عَمَلِي”, وَيَقُولُ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَمَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ: “إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ”.
وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّه كَانَ يَقُولُ: “إِنِّي لَأَمْقُتُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ فَارِغًا ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا، وَلَا عَمَلِ الْآخِرَةِ”، يَقُولُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: “إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي وَقَوْمَتِي”؛ يَعْنِيْ: يَحْتَسِبُ بِذَلِكَ الأَجْرُ مِنَ اللهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه- يَقُولُ عَنْ حَالِ السَّلَفِ: “أَدْرَكْتُ أَقْوامًا كَانُوا عَلَى أَوْقَاتِهِمْ أَشَدَّ حِرْصًا مِنْكُمْ عَلَى دَرَاهِمِكُمْ وَدَنَانِيرِكُمْ!”..
ويقول رحمه الله : “يا ابن آدم إنك أيام مجموعة، إذا ذهب يوم ذهب بعضك”. وقال عمر بن عبد العزيز: ” -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه-: “ابْنُ آدَم! إِنَّ الْأَيَّام تَعْمَلُ فِيْكَ؛ فَاسْبِقْهَا وَاعْمَل فِيْهَا”.”. ويقول آخر: “من كان يومه كأمسه فهو مغبون”..
معاشر المسلمين: إنّ عُظماءَ الهمّة كانوا أحرص الناس على أوقاتهم، وأحرسهم له من قاطعي الطريق والبطالين، فهذا الإمامُ ابن عقيل -رحمه الله- يقول: “إني لا يحل لي أن أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرةٍ ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أَعْمَلْتُ فكري في حالة راحتي وأنا مُسْتَطْرِح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أُسَطِّرُه”
وهذا الإمام ابن الجوزي -رحمه الله-, يصف حاله حين قعوده مع أضيافه: “ثم أعددتُ أعمالاً لا تمنع من المحادثة، لِأَوقاتِ لِقَائِهِمْ؛ لئلاً يمضي الزمان فارغاً. فجعلت من الاستعداد للقائهم ، بريَ الأقلام وحزمَ الدفاتر، فإنَّ هذه الأشياء لابد منها ، ولا تحتاج إلى حضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي!” ا.ه.
وهكذا كان دأب السلف الصالح،
وقد روي من سيرهم العجب العجاب في الحفاظ على أوقاتهم، فتركوا المصنفات الكثيرة والعلوم النافعة، فهذا البيروني(المتوفي /٤٤ه) لا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر، وقلبه الفكر، وكان يتقن عددا من اللغات:العربية والسريانية والفارسية والهندية، وترك من المؤلفات في مختلف المجالات ما زاد على مئة وعشرين مجلدًا..
وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
*** وتأتي على قدر الكرام المكارم..
وأوصى بعض السلف أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرَّقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، أين نحن من السلف الصالح ، وقد أصبحنا نرى الشباب ينامون ويستيقظون والهواتف بأيديهم..
هؤلاء اغتنموا أوقاتهم في طاعة الله ، فأين أوقاتنا من أوقاتهم؟ وأين سهراتنا من سهراتهم؟، إننا في سهرتنا نرفع شعار: “قتل الوقت”. فمنا من يظنون أن أعمارهم تقتل بهذا، نعم؛ إنهم يقتلون ولكنهم يقتلون أنفسهم بقتل وقتهم، ويزعمون أنهم يقتلون أوقاتهم، إنهم يقتلون أعمارهم بالنظر إلى المسلسلات الفاسدة ، والأفلام الخبيثة الخليعة ، والمجلات الساقطة، وفي الغيبة والنميمة.
قال تعالى : {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى }طه /١٥ ..
العنصر الثاني: تنظيم الأوقات لا سيما وقت الأجازات وخطورة التهاون بشبكة المعلومات..
في موسم الإجازات يحسن الحديث عن الوقت؛ في حفظه وتنظيمه، وحسن الاستفادة منه ومحاسبة النفس عليه، فلقد قالوا: إن أعظم المقت إضاعة الوقت، وقالوا: “ليس الوقت من ذهب بل هو أغلى من الذهب، وأغلى من كل جوهر نفيس، الوقت هو الحياة، وهو العمر، والإنسان يفدي عمرَه بكل غالٍ وثمين”..
والوقتُ أنفَسُ ما عُنيتَ بِحِفْظِهِ *** وَأَرَاهُ أَسْهَلُ مَا عَلَيْكَ يضيعُ..
وقالت الحكماء: “من أمضى يومًا من عمره في غير حقٍّ قضاه، أو فرضٍ أداه، أو مجد أثَّله، أو فعل حميد حصَّله، أو علم اقتبسه فقد ظلم نفسَه، وعقَّ يومَه وخان عمرَه”.
وإن توزيع فرائض الإسلام على الأوقات يؤكد ضرورة حفظ الدقائق والساعات مع حركة الكون ودوران الفَلَك، وقد نُقِلَ عن بعض السلف أنه كان يسمي الصلوات الخمس: “ميزان اليوم”، ويوم الجمعة: “ميزان الأسبوع”، وشهر رمضان: “ميزان العام”، والحج: “ميزان العمر”. كل ذلك محاسبة دقيقة، وتنبيه حصيف ليسلم له يومُه وأسبوعُه وعامُه وعمرُه ..
أيها المسلمون: إن الشبكة العنكبوتية وما تنتظمه من المواقع والمجموعات والأدوات وما تستبطنه من معلومات، وما يتعلق بكل ذلك، وما يلتحق به ذلك كله من أفضل ما أنتجته البشريةُ ؛ لتقريب المسافات ، وبناء العلاقات، وتوثيق الصلات ، وضبط الأوقات، والاتصال بجميع الجهات ، وإثراء المعلومات، وتوظيف كل ذلك في الأعمال الصالحة ، والمسالك النافعة والمشاريع المثمِرَة، وتلك نِعَم عظيمة تستوجب الشكر، ومن أعظم الشكر استعمالها والاستعانة بها على طاعة الله، وابتغاء مرضاته ، ونفع النفس والناس بحسن توظيف الوقت وتنظيمه من خلالها. غير أن هذه الوسائل والأدوات والمواقع من نظر آخر من أعظم ابتلاءات العصر على العامة والخاصة، على حد قوله -عز شأنه-: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 35].
فمن أنشأ له موقعا أو فتح له حسابا في هذه الأدوات والشبكات فقد فتح على نفسه باب المحاسبة، وليستحضر عموم هذه الآية الكريمة: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 49]..
كم أخذت هذه الأجهزةُ والأدواتُ من الوقت والتفكير والتركيز والحضور؟ إنها سيطرة مخيفة وانصراف مذهل وانشغال خطير، كم من الناس فقدوا الإحساسَ، وفقدوا المتعة وفقدوا الفائدة وأهدروا الأوقات، يرسلون ويكتبون، ويستقبلون ويغردون، ويجتمع عندهم ركام من الرسائل، شهورا بعد شهور دون أن تجد من ينفض عنها الغبار، وكم من هؤلاء المبتلين يخدع نفسَه في مواقع فيها قرآن كريم، وحديث شريف، وكلام لأهل العلم والاختصاص مفيد، وحِكَم وتوجيهات ولكنه لم يفتحها، وربما كان الرابط معطوبا وهو لا يدري ..
أيها الإخوة: إن التعلق الدائم بهذه الأجهزة أثَّر تأثيرا كبيرا على العلاقات الاجتماعية ، والتواصل المثمر مع الأهل والأقارب ، وكل من تطلب صلته ومواصلته حتى انقلبت في كثير منها إلى أدوات تقاطع لا أدوات تواصل..
العنصر الثالث: ضوابط الوقت وحسن تنظيم الوقت هو الفارق بين الإنسان الناجح والفاشل ..
ضوابط تنظيم الوقت
أولها وهو أهمّها: شعورُ الإنسان بالْغايةِ من وجوده, وأنه ما خُلق عبثًا, بل خُلق ليزرع الخير والبرّ؛ لِيَحصده يوم الحصاد الأكبر.
فكلّ عاقلٍ يسعى لعملٍ يُدرّ عليه مالاً, وإذا سألته لماذا تعمل؟ قال: لِكي أُؤَمِّن مُسْتقبلي وحياة أبنائي.
وقد أصاب في ذلك, ولكن, أليس تأمينُ المستقبلِ الأصليِّ أولى, وتأمينُ الحياةِ الباقيةِ الخالدةِ أهمّ؟
قال ابن القيم -رحمه الله-: “كل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرةٌ نفيسةٌ ، فإضاعة هذه الأنفاس خسرانٌ عظيم ، لا يسمح بمثله إلا أجهلُ الناس ، وأَحْمَقُهُمْ وأَقَلُّهُمْ عقلاً. وإنما يظهر له حقيقةَ هذا الخسران يوم التغابن: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران: 30]”.ا.ه
ثانيها: أنْ يكون للإنسان هدفٌ يسعى إليه, ونظامٌ وجدولٌ يسير عليه, وقد فصّلت ذلك في الخطبة الماضية، والحمد لله..
ثالثها: أنْ يُصاحبَ أصحابَ الهمة والعزيمة ، ويُكثرَ من القراءةِ والمطالعةِ في الفنّ الذي يميل إليه, ويخدمُ مشروعه وعمله..
الْمُشكلة عندنا ليس من قلة الوقت، بل من عدم تنظيم الوقت ، وعدم وجود النية الصادقة في اسْتغلاله وتنظيمِه.
وحُسنُ تنظيم الوقت ، هو الفارقُ بين الشخص الناجح والفاشل.
أمة الإسلام: إنّ من الحرمان أنْ يُضيّع العاقلُ وقته الثمين ، الذي هو عمره وحياتُه، بين جلَساتٍ طويلةٍ مع الأصحاب ، أو لهوٍ وأكل في الاستراحات ، أو سياحةٍ أو صيدٍ أو مُتابعةٍ لِلْمُباريات أو الأخبار.
قال ابن حجر -رحمه الله-: “إنني لأتعجب ممن يجلس خالياً عن الاشتغال”! ا.ه
وحُقّ له أن يتعجب ، فكيف يرضى العاقل أنْ يقضي وقتًا، بدون شغل ينفعُه في دينِه أو دُنياه!
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرُّخْص، إلى غير ذلك. فعلمتُ أنَّ الله –تعالى- لم يُطْلِعْ على شرف العمر, ومعرفةِ قدر أوقات العافية, إلا من وفَّقه وأَلْهَمَهُ اغتنام ذلك, (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)”..
العنصر الرابع: ضياع الأوقات سبب للندم في الآخرة ..
ففي الذكر الحكيم عرض لمشاهد الندامة والحسرة التي تمتلئ بها قلوب أقوام لم يعرفوا للوقت قيمته، لم يعرفوا للزمان أهميته، فكم يندم المفرط في استثمار ساعات يومه ودقائق نهاره؟! كم يندم المفرط في استثمار ساعات وقته حينما تحين ساعة الاحتضار، حينما يستدبر الإنسان الدنيا، حينما يستقبل الآخرة؟! فيتمنى لو منح مهلة من الزمن، وأعطي فرصة من العمر، وأُخّر إلى أجل قريب؛ ليصلح ما أفسد، ويتدارك ما فات؟!
وفي هذا يقول المولى -عز وجل- محذرا عباده من هذه الساعة من تضييع فرص الحياة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[المنافقون: 9 – 11].
هذا موقف من مواقف الندامة والحسرة، لمضيِّعي الأوقاتِ وقاتليها..
والموقف الآخَر من مواقف الحسرة والندامة موقفٌ عظيمٌ يوم الجزاء والحساب، يوم تُوَفَّى كلُّ نفسٍ ما عمِلَتْ، وتُجزَى كل نفس بما كسبت، يوم يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، في تلك اللحظات يتمنى أهل النار لو يعودون مرة أخرى إلى الدنيا، من أجل ماذا؟ ليبدؤوا عملا صالحا؛ ولكن أنى لهم ذلك، وقد انتهى زمن العمل، وبدأ وقت الحساب؟!.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 36-37].
هذه -أيها الإخوة المسلمون-: مشاهد من مشاهد الندامة والحسرة التي تمتلئ بها قلوب أقوامٍ أنعَمَ الله عليهم بنعمة الوقت والحياة، أنعم الله عليهم بنعمة الصحة والفراغ، وفتحت أمامهم مجالات العمل، مجالات التقرب إلى الرب الكريم، ففرطوا فيها وأضاعوها…
يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-: اعلم أن من له أخوان غائبان وينتظر قدوم أحدهما في غدٍ والآخر بعد سنة ، فلا يستعدّ للذي يقدم بعد سنة، وإنما يستعدّ للذي ينتظر قدومه غدًا، فالاستعداد نتيجة قرب الانتظار، فمن انتظر مجيء الموت بعد سنة اشتغل بالمدَّة ونسي ما وراء المدَّة، ثم يصبح كل يوم وهو منتظر للسنة بكمالها، ولا يحسب اليوم الذي مضى منها، وذلك يمنعه من المبادرة إلى العمل؛ لأنه يرى لنفسه متَّسعًا دائمًا فيؤخر العمل، ولهذا قال-صلى الله عليه وسلم-: “بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمرّ” أخرجه الترمذي وحسنه ..
أيها الإخوة: احذروا من التسويف، قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: “إيّاك والتسويف، فإنه أكبرُ جنود إبليس”..
وقالَ ابنُ القيمِّ -رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاه-: “وأعظمُ الإضاعاتِ إضاعتانِ، هُمَا أصْلُ كُلِّ إضاعةٍ: إضاعةُ القلبِ، وإضاعةُ الوقتِ؛ فإضاعةُ القَلْبِ مِنْ إيثارِ الدنيا على الآخِرَةِ، وإضاعةُ الوقتِ مِنْ طولِ الأمَلِ، فاجتمعَ الفسادُ كُلُّهُ في اتِّباعِ الهوى وطولِ الأمَلِ، والصلاحُ كُلُّه في اتِّـباعِ الهُدى والاستعدادِ لِلقاءِ”.
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها *** إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بَانِيْهَا
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها *** وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بَانِيْهَا..
إنَّ على كل مسلم أن يدرك: أن الوقت سريع الانقضاء، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الريح، سواء أكان زمن مسرة وفرح، أم كان زمن اكتئاب وتَرَح، ومهما طال عمر الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ومهما عُمر فيها من سنوات وعقود، فهو قصير، ما دام الموت نهاية كل حي..عند الموت تنكمش الأعوام وإن طالت، عند الموت تتقلص العقود وإن امتدت، تنكمش العقود والأعوام كلها التي عاشها الإنسان، حتى لَكأنها لحظات مرت كالبرق الخاطف ..