فقه التيسير أم فوضى التشدد؟ بين هدي العلماء وتجاسر الأدعياء

بقلم الدكتور : فارس  أبوحبيب
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف المصرية

 

قال سفيان الثوري رحمه الله:
“إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيُحسنه كل أحد”.

بهذه الكلمة الوجيزة جمع الإمام سفيان خلاصة منهج السلف في الفتوى، إذ ليس الفقيه من يضيّق على الناس ويُعسّر، بل من يفقه مقاصد الشريعة، ويزن الأحكام بميزان العلم والرحمة، ويأخذ بالرخصة حين تكون، لا حين يشتهي.

 منهج الشريعة في التيسير:
من المتقرّر في أصول الفقه أن الفتوى يجب أن تراعي حال المستفتي وظروفه، وأن تُبنى على الدليل والفقه لا على العاطفة أو التشدد، قال الله تعالى: “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” [البقرة: 185]

وقال ﷺ: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا” [رواه البخاري ومسلم].

 فقه الرخصة: علم لا هوى:
الرخصة في الفقه ليست تنازلًا ولا تمييعًا، بل هي انتقال مشروع من عزيمة إلى رخصة لعذر، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل:
“من تنطع في الفتوى خرج منها، والعالم من عرف الناسخ والمنسوخ، والرخص والعزائم”.

ولذلك قال العلماء:
“من أخذ بالعزيمة في موضع الرخصة فقد جهل، ومن أخذ بالرخصة في غير موضعها فقد تهور”.

فاتورة التشدد:

كم من بيتٍ تهدّم بسبب فتوى متشددة في الطلاق؟
وكم من شابٍ ترك الدين والالتزام بسبب تضييق في اللباس أو المعاملات أو النوافل؟
وكم من مريض تعذّب روحيًا لأن مفتٍ جاهلًا منعه من الرخصة في الصيام أو الصلاة جالسًا؟

قال الإمام النووي في “المجموع” (1/75):
“من أمَر الناس بالعزائم في كل حال فقد ضيّق ما وسّعه الله، وخالف السنة.”

فوضى الفتوى من غير أهلها:
في زماننا كثرت الفتاوى من غير المؤهلين: عبر وسائل التواصل، ومن على المنابر، وفي اللقاءات، حتى صار كل صاحب لحية أو لباس شرعي يُظَن أنه فقيه، وصار الناس يأخذون الدين من المشاهير والجهلاء.

قال ابن سيرين رحمه الله:
“إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم”.
وقال الإمام مالك:
“أجُرّؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار”.

 نماذج من فقه التيسير الصحيح:

1- الإمام أبو حنيفة أفتى للحُبلى والمرضع بالإفطار في رمضان إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، وهو رأي الصحابة.
2- الإمام الشافعي قال بجواز المسح على الجوربين، تيسيرًا على الناس، وهو رأي جماعة من الصحابة.
3- النبي ﷺ خفّف في الصلاة على المريض، وعلى المسافر، وعلى من بهم أعذار، كلٌّ بحسب حاله.

 الواجب على العلماء والدعاة:
– أن يحرروا مناط الفتوى، ولا يُسارعوا بالتشديد.
– أن يربّوا الناس على فهم مقاصد الدين.
– أن يواجهوا فوضى الفتاوى والجهالة بالعلم والتأصيل والرفق.

خاتمة:
إن التشدد لا يحتاج إلى فقه، بل إلى قسوة، وأما التيسير الموزون فحاجة الأمة، وهو ميراث النبوة، به تُحيا القلوب وتُفتح الأبواب.

فلنردد مع الإمام سفيان:
“إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيُحسنه كل أحد”.