بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في عالمٍ تتلاطم فيه أمواج التغريب والانفتاح، وتُقلب فيه المفاهيم لتُعرض القيم النبيلة وكأنها عوائق قديمة، يقف الحياء شامخًا كفضيلة خالدة، تتزين بها النفوس الراقية، وتُكرم بها المرأة خاصة، إذ جعله الله لها سترًا وجمالًا، ووقارًا واحترامًا، وهو القيمة التي إذا ضاعت ضاع معها الكثير من جمال الأنثى الحقيقي.
في مشهد مهيب ومؤلم، تصرخ السيدة الطاهرة مريم العذراء، وهي تتمنى الموت لا لشيء إلا لشدة ما وجدت من ألم نفسي بعد أن حملت دون أن يمسسها بشر، فتقول كما جاء في سورة مريم: “يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا”
إنها ليست صرخة خائفة من الناس على حياتها، بل هي أنّة امرأة تعرف قيمة الشرف، وتدرك أن الحياة بلا طُهر وحياء، حتى وإن كان الطعن باطلاً، أثقل من الموت. إنها رسالة بليغة عبر الزمان، تخبرنا أن العِرض أغلى من النفس، وأن المرأة إذا نزعت عنها ثوب الحياء، فقد نزعت عنها أغلى ما تملك.
ويمر الزمن ليضرب لنا القرآن مثالًا آخر في سورة القصص، حين لجأ سيدنا موسى عليه السلام إلى مدين، ليُقابل فتاتين تسقيان على استحياء، ثم تقول إحداهما: “إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا” لكن ما لفت انتباه موسى، ونبّه إليه القرآن العظيم، لم يكن وصفًا خارجيًا أو جمالًا ظاهرًا، بل قال الله: “فجاءته إحداهما تمشي على استحياء” لم يصف الله طولها، ولا عينيها، ولا ما ترتديه، بل أشار إلى “الحياء” لأنه هو الزينة الحقيقية، وبه يليق الزواج، وبه تُحترم المرأة وتُصان، وله بذل موسى – نبي الله – عشر سنين من حياته مهرًا لها، حينما ارتأى فيها أعظم خصلة يمكن أن تُطلب في أنثى.
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله ﷺ: “الحياء لا يأتي إلا بخير” رواه البخاري ومسلم. وفي رواية أخرى قال ﷺ: “الحياء شعبة من الإيمان” فهو ليس مجرد خلق مستحب، بل جزء من الإيمان ذاته، وكأن الإيمان إذا سكن قلب المرأة لا بد أن يُثمر حياءً في القول والسلوك والمظهر.
وقد كان حياء فاطمة الزهراء – رضي الله عنها – مثالًا نادرًا، حتى أنها أوصت أن يُدفن جسدها الطاهر ليلًا بعد وفاتها، كي لا يُرى منها شيء، رغم أن روحها قد فارقت جسدها! حياءٌ امتد بعد الحياة، فكيف بحيائنا في الحياة؟
لكن للأسف، نرى اليوم نماذج مؤلمة لانحدار الحياء. نرى على الشاشات ومواقع التواصل مَن تفتخر بعُريها، وتتباهى بجرأتها، وتعتقد أن الحياء ضعف، وأن الستر رجعية، حتى أصبحت بعض الفتيات تعتبر الحياء “عُقدة نفسية” يجب التخلص منها.
وإذا نظرنا إلى أخلاقيات الشباب والفتيات بين الأمس واليوم، وجدنا الفرق شاسعًا والفجوة مؤلمة.
في الماضي، كان الشاب يتحرج من التحدث برفع الصوت أمام امرأة، وكانت الفتاة تستحي من مجرد النظر في عيون الغرباء. كان اللقاء بين الجنسين محكومًا بأدب جمّ، وكانت الأمهات يُربّين بناتهن على أن الحياء تاج لا ينبغي أن يُنزع، وعلى أن الاحترام يبدأ من طريقة الجلوس، وحديث اللسان، وحتى النظرات.
أما اليوم، فقد تبدلت الأحوال عند كثير من الناس. أصبح الشاب يتحدث بجرأة عن علاقاته، والفتاة تنشر صورها بلا حدود، ولا حواجز من عقل أو دين أو عرف. انتشر التفاخر بالمظاهر، والتقليد الأعمى للمشاهير، واختفى من القلوب استشعار مراقبة الله، وغابت الرقابة الذاتية التي كانت تردع النفس عن الزلل.
ولنا في رسول الله ﷺ أعظم القدوة في الحياء، فقد وصفه الصحابة فقالوا: “كان رسول الله أشد حياءً من العذراء في خدرها” رواه البخاري. لم يكن حياؤه ضعفًا، بل كان حياء الأقوياء، حياءَ العظماء الذين يهابون أن يُؤذوا غيرهم بكلمة، أو يُحرجوا أحدًا بنظرة أو لوم.
وقد تجلى حياؤه حين جاءه رجل يسأله عن أمر خاص، فلم يحرجه ﷺ، بل أجابه بلطف دون أن يُشعره بالإثم أو الحرج. وكان إذا رأى ما يكره في وجه أحد، لم يُصرّح له، بل يقول: “ما بال أقوام…” ويُعرض عن ذكر الأسماء، ستراً عليهم ورحمةً بهم.
وحتى مع الصحابة، كان يغرس فيهم الحياء في كل موقف. علمهم أن الحياء لا يُناقض الرجولة، بل يُكمّلها، وأن الأخلاق هي تاج الإيمان. فكانوا إذا جلسوا عنده يغضّون أبصارهم، ويخفضون أصواتهم، ويتأدبون بحضوره، ويمشون على خطاه بعد وفاته.
وقد أثمرت تربية النبي هذا الجيل الراقي في أخلاقه؛ فكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يُعرف بشدة حيائه حتى أن النبي ﷺ قال عنه: “ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟” رواه مسلم.
والحياء ليس قيدًا على حرية المرأة، ولا ضعفًا في الرجل، بل هو صمام أمان للنفوس، ومفتاح للكرامة، وهو الحصن الذي يُبقينا مكرّمين في زمن تتهاوى فيه القيم. فلنُحيي الحياء في قلوبنا، كما أحياه رسول الله ﷺ، ولنغرسه في بيوتنا كما غرسته مريم الطاهرة، ونعلّمه لأولادنا كما علّمه الصحابة لأبنائهم.
الحياء هو الجمال الحقيقي الذي لا يشيخ، والدرع الإيماني الذي لا يُخترق. وصدق رسول الله ﷺ إذ قال: “إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت.”