خطبة الجمعة القادمة (لله درك ياابن عباس) للشيخ أحمد أبو اسلام

الخطبة القادمة بعنوان (لله درك ياابن عباس)

الهدف منها : اظهار فضل ابن عباس رضي الله عنهما .

إعداد الشيخ أحمد أبو اسلام

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

الجمعة 16 من محـــرم 1447هـ الموافق 11 من يــوليــو 2025م

عناصر الخطبة :

١) النبي -صلى الله عليه وسلم – يبشر بقدوم ابن عباس

٢) يا غلام إني أعلمك كلمات

٣) نال ابن عباس منزلة رفيعة في العلم بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له

٤) كان ابن عباس يطلب العلم من أصحاب رسول الله

٥) في السابعة عشر من عمره كان مستشاراً لعمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه –

٦) سيدنا عبدالله بن عباس في زمن سيدنا علي

المقدمة

إن الحمد لله، نحمَده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:
النبي -صلى الله عليه وسلم – يبشر بقدوم ابن عباس

أيها المسلمون:

★لقد بشر النبي -صلى الله عليه وسلم -بقدوم ابن عباس إلى الدنيا والنبي -صلى الله عليه وسلم-

لا يبشر بقدوم شيء إلا وإذا كان القادم خير للدنيا كلها .

فقد أخبرت أم الفضل بنت الحارث أنها كانت تمر بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحجر، فقال لها: “يا أم الفضل” فردت عليه: “لبيك يا رسول الله”.

قال لها النبي: “إنك حامل بغلام”.

قالت مستغربة: “كيف وقد تحالفت قريش ألا يولدوا النساء؟” (إشارة إلى تحالفهم على عدم إنجاب الذكور).

أجابها النبي: “هو ما أقول لك، فإذا وضعتيه فأتيني به”.

عندما وضعت الغلام، أتى به النبي صلى الله عليه وسلم.

سماه عبد الله، وأحنكه بريقه (أي: مسح حنكه بريقه).

أمرها أن تذهب به إلى العباس، وأن تصفه بأنه “كيّس” (أي: أن هذا الغلام ذكي).

أخبرت أم الفضل العباس، فتبسم.

أتى العباس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان رجلاً جميلاً مديد القامة.

قام النبي صلى الله عليه وسلم وقبّل ما بين عينيه، وأقعده عن يمينه.

قال النبي: “هذا عمي، فمن شاء فليباه بعمه”.

قال العباس: “بعض القول يا رسول الله” (اعتراضًا على تفخيمه له).

قال النبي: “ولم لا أقول وأنت عمي وبقية آبائي، والعم والد”.

يا غلام إني أعلمك كلمات

★وهاهو ابن عباس يكبر وتبدوا عليه علامات الذكاء والنباهة فيأخذ العلم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقد ورد عن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب -رضي الله تعالى عنهما- قال: كنت خلف النبي ﷺ يوماً، فقال: يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم: أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

شرح الحديث

لولم يصل إلينا من ابن عباس -رضي الله عنهما- غير هذا الحديث لكفى لما في الحديث من خير ولما في هذا الحديث من أصول عظام، وأساسات لابد للمسلم من أن يعرفها .

★فقد قال ابن عباس كنت خلف النبي ﷺ، يعني: أنه كان رديفاً لرسول الله ﷺ على الدابة، وكان من هدي النبي ﷺ الذي يدل على تواضعه أنه لربما أردف بعض أصحابه معه على الدابة، ولربما أردف غلاماً صغيراً، كما في هذا الحديث، حينما أردف عبد الله بن عباس ، وقد قيل: إن عمره حينما أردفه النبي ﷺ لربما يقارب العاشرة، وهذا من تواضعه ﷺ.

★والذين أردفهم ﷺ كثيرون، منهم: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وأسامة بن زيد، وكذلك معاذ، إلى غير هؤلاء، حتى إن بعض أهل العلم بلغ بهم إلى أربعين نفساً، ونظمهم بعض العلماء في أبيات جمع فيها أسماءهم من أجل أن تحفظ، فالمقصود أنه يجوز الإرداف على الدابة إذا كان ذلك لا يشق عليها، وهي تحتمله، وهذا يدل بحد ذاته على تواضع النبي ﷺ.

★يقول: كنت خلف النبيﷺ يوماً، فقال: يا غلام، والغلام هو الصغير الذي يكون من بعد الفطام إلى سن البلوغ، فإذا بلغ فإنه لا يقال له: غلام.

★قال: إني أعلمك كلمات هذا الجمع -جمع كلمة- بهذه الصيغة يدل على التقليل، كلمات قليلة، وهذا أدعى لتشوف النفس لملاحظتها ومعرفتها وحفظها، فهي شيء قليل لا يثقل على سامعه، ولا يحتاج إلى كلفة من أجل حفظه.

★وهذه الكلمات المذكورة في هذا الحديث تضمنت أصولاً عظاماً، وأساسات لابد للمسلم من أن يعرفها، وأن يتمثلها في حياته وواقعه، وأن يجعلها أمام ناظره في أموره كلها، فإذا حصل للعبد ذلك استراح من كثير من الهموم والمتاعب النفسية، واستراح من كثير من الذل للمخلوقين، وتعليق القلب ورجاء ما عندهم، واستراح من كثير من الأحزان التي يتقطع قلب الإنسان أحياناً من جرائها على أمور قد تقضت، ولا حيلة في رجوعها، فصار الإنسان متحلياً بعد ذلك بالتوكل على الله ، ورجاء ما عنده، والخوف منه وحده، والتوكل عليه دون التوكل على أحد سواه، فإذا حصل هذا للعبد، فإن قلبه ينعم، وإنما هذا القلب قد خلق وركب تركيباً خاصاً أن يوجه إلى ربه ومالكه ومعبوده، فمتى ما توجه إلى غيره عُذب على قدر تعلقه بهذا المخلوق، سواء كان هذا التعلق من باب المحبة، أو كان هذا التعلق من باب الرجاء، أو كان هذا التعلق من باب التوكل على هذا المخلوق أو غير ذلك من أنواع التعلقات.

إذا كان قد ابتلي بعشق عُذب قلبه، وإذا كان قد تعلق بمال عذب، إذا كان متعلقاً بمظاهر الحياة الدنيا وبهجتها فإن قلبه يعذب بها، ما لم يحصله يُعذب، كيف فاته، وكيف السبيل إلى تحصيله.

★وإذا رأى ما عند الناس من ألوان الإنعام والإفضال الذي جاد الله به عليهم تقطع قلبه حسرات، وإذا كان ذلك بيده فإنه يعذب به أيضاً إن كان قلبه قد تعلق به، فهو لابد أن يفوته أشياء، ولابد له من لون من الخسارة، ولابد له أيضاً من ضياع بعض صفقته، ولربما كان هذا الإنسان يتخوف من ضياع ذلك فتجده مشغول البال مهموماً، كيف يصرف هذا المال، وكيف يصنع به، إن نزل الذهب تحير أين يضع هذا المال، وإن نزل الدولار تحير كيف يصنع بهذا المال، فقلبه هكذا دائماً.

★فالأحسن أن تكون الدنيا في يد الإنسان ولا تدخل في قلبه فيتعلق بها؛ لأن تعلقه بها يكون على حساب تعلقه بالله، فيكون ذلك سبباً لإيلام هذا القلب، فهذا الحديث تضمن هذه المعاني العظام، ولهذا قال ابن الجوزي-رحمه الله- في كتابه صيد الخاطر: كلما طالعت هذا الحديث دهشت وطاش عقلي، ثم يتعجب من حال الناس كيف يعرضون عن هذا الحديث، ولا يتدبرونه ويتفهمون ما جاء فيه من المعاني العظام.

★فالنبي ﷺ قال لابن عباس من هذه الكلمات: احفظ الله يحفظك حفظُ الله يكون بحفظ حدوده وأوامره، واجتناب نواهيه.

الله يقول: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، المحافظة على شرائع الإسلام، على ما أمرنا الله به، فنكون ممتثلين، هذا من حفظ الله، حافظ على هذه الصلاة بما فيها صلاة الفجر.

★ومن حفظ الله أن تحفظ جوارحك عن مواقعة ما لا يليق، فتشغل هذه الجوارح بما ينفع بدلاً من أن تشغلك، فهذا الإنسان الذي ينظر بعينه إلى صور النساء في القنوات، وفي الأسواق وفي غيرها لم يحفظ الله.

★هذا الإنسان الذي يأخذ المال الحرام، ويساهم في كل مساهمة تعرض له لم يحفظ الله ، هذا الإنسان الذي يتكلم بلسانه كيفما اتفق، كل ما يخطر على باله قاله، يغتاب الناس ويقع في أعراضهم، وينقل النميمة، ويكذب، هذا لم يحفظ الله ، إلى غير ذلك من ألوان التفريط.

★فإذا كان العبد بهذه المثابة لم يحفظ الله؛ لأن حفظه -تبارك وتعالى- يكون بحفظ أوامره، وما تعبَّدك به، فإذا فعلت ذلك فالجزاء من جنس العمل، فسيحفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فلا يطولك شيء من أذى المخلوقين من الجن والشياطين والإنس، وهذا شيء مشاهد معروف مجرب.

★وقد أخبر بعض من تاب ممن التعامل مع السحرة، يقول: حاولنا مع سحرة في بعض بلاد المغرب أن نسحر فلاناً وفلاناً، وفي كل مرة كان ذلك يفشل، ونكرر ذلك، وندفع المال للساحر، ومع ذلك كان كل ذلك يبطل حتى يئس الساحر، وقال: صاحبكم قوي محصن، لا سبيل لكم إليه.

هؤلاء طلاب يريدون أن يسحروا أستاذاً لهم في الجامعة من أجل أن يتخرجوا في بعض المواد التي يدرّسها لهم، انظروا إلى هذا الحد!.

★احفظ الله يحفظك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا وقع الإنسان في كارثة، لو غرّز في صحراء وما عنده أحد، ولا عنده ماء، ولا عنده ما يسعفه، ولا يوجد هناك اتصال ولا غير ذلك، ماذا يصنع الإنسان؟

الله يحفظه وسييسر له من أسباب النجاة ما يخرج به من الملمّات، حينما يواجه ألوان الأخطار وهو في طريقة في سيارته لربما عدا عليه من يعدو عليه، فيصطدم به، فينجو بإذن الله ؛ لأن الله يحوطه ويحرسه، ويحفظه، فلا يصل إليه المكروه.

★والله يحفظ عباده المؤمنين، ويحفظهم من كيد الكائدين، ومكر الماكرين؛ إذ إن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، والله يقول: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ [الرعد:11].

★والله تعالى يقول: هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن:60]، ويقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فالله يجازي عبده المؤمن إذا حفظ حدوده، إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]، فكيفما كنت يكون الله معك، فمن أساء فإنه ينتظر الإساءة والعقاب، -إلا من رحم الله ، ولطف به، ومن أحسن فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟.

★احفظ الله تجده تُجاهك، يفسره الرواية الأخرى: تجده أمامك، بمعنى: أن الله معك معية خاصة بالنصرة والتأييد والحفظ والكلاءة، كما قال الله لموسى وهارون حينما أمرهما أن يذهبا إلى أشرس مخلوق يدعي الإلهية فرعون، وأبديا له -أي لله الخوف من هذا الجبار- فقال: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طـه:46]، وقال: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طـه:39]، يعني: موسى ﷺ، كل ذلك بكلاءته وحفظه ورعايته، فما ظنكم بإنسان صنع على عين الله، وقال الله له: اذهب فأنا معك أسمع وأرى، هل يصل إليه مكروه؟ لا يمكن أن يصل إليه مكروه.

★ولذلك لما كان الله مع إبراهيم ﷺ أُلقي في النار فلم يحترق، ولما كان مع محمد ﷺ واجتمعوا حول الغار حتى قال أبو بكر : لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا، فقال له النبي ﷺ: ما بالك باثنين الله ثالثهما، كما قال الله : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا [التوبة:40] فنحن بحاجة إلى عون الله وألطافه، والله ليس بحاجة إلينا، فهو الغني وأنتم الفقراء، فالحري بالعبد أن يتذكر هذا المعنى جيداً، أنت تمرض وأنا أمرض، وكلنا يمرض، نحن فقراء مساكين تنزل بنا ألوان المصاعب والملمات، فنرفع أيدينا إلى الله ، فإن كنا مفرطين في حفظ حدوده فماذا ننتظر من رعايته وكلاءته وحفظه؟، .

★قال له النبي ﷺ: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله… إذا سألت: يدخل في هذا الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى، فإن التوجه بذلك إلى أحد من المخلوقين حينما يسأل الإنسان مخلوقاً حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يكون من قبيل الشرك الأكبر المخرج من الملة، أما الميت فإنه لا يُسأل قليلاً ولا كثيراً؛ لأنه في شغل ولا يستطيع أن يقدم لك قليلاً ولا كثيراً ولا شربة ماء، لا يستطيع أن يقدم لك شيئاً مما يقدمه المخلوق الحي، بل ولا الطفل، فلا يُسأل بإطلاق، وأما الحي فإن سؤاله فيما لا يقدر عليه إلا الله يكون من قبيل الشرك الأكبر، وذلك بأن الأمر المسئول هو مما يختص بالله -تبارك وتعالى، كإنزال المطر، أو دخول الجنة والنجاة من النار .

★وكذلك إذا قام ما يمنع من ذلك فصار في هذه الحال لا يُتوجه بالسؤال إلا لله ، إنسان ركب البحر، وتلاطمت أمواجه لو أنه رأى سفينة فناداهم وطلب منهم المساعدة، هذا يجوز، لكن لو أنه سأل إنساناً ليس بحضرته أصلاً فلا يجوز.

★وأما سؤال المخلوق فيما يقدر عليه فإن هذا جائز، ولكنه على خلاف الكمال في مراتب العبودية العالية، فالإنسان له أن يسأل غيره أن يناوله هذا الكتاب، أو أن يطعمه، فيما يقدر عليه المخلوق، لكن هذا ليس من الكمال، وقد بايع النبي ﷺ بعض أصحابه حينما قال لهم: ألا تبايعوني؟، قالوا: يارسول الله، قد بايعناك مرة فعلى ماذا نبايعك؟ قال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، ثم أتبع ذلك كلمة خفيفة على أن لا تسألوا الناس شيئا، يقول بعض من حضر من أصحاب النبي ﷺ: فرأيت بعض هؤلاء وإن السوط ليسقط من أحدهم، يعني وهو على البعير، أو على الدابة، فما يقول لصاحبه: ناولنيه.

وذلك أن الإنسان إذا سأل الناس ثقل عليهم، فالأحسن للإنسان أن يقوم بحوائجه بنفسه، ولا يفتقر لأحد من المخلوقين، فإن سؤالهم فيه نوع افتقار.

وحتى ولدك أحياناً لربما يثقل عليه القيام بشئونك، لكن هذا لا يفهم على غير وجهه، فليس المراد أن الإنسان لا يربي ولده، ولا يأمره ولا ينهاه، أو لا يأمر خادمه، أو لا يقوم بما يجب عليه أن يقوم به في المكان الذي صار عليه.

عنده موظفون، وهو مدير عليهم، أو نحو ذلك، عنده عماله أو نحو هذا، فلابد أنه يوجههم، يأمرهم، ينهاهم فيما هم قد أقيموا من أجله في عملهم، فهذا لا ينافيه.

★لكن المقصود في حظوظ النفس والأشياء الشخصية لا يكل أمره إلى الناس، وينتظر من الناس أن يقوموا بحوائجه، فيكون كَلَّا عليهم، ليس هناك أفضل من الغنى عن الخلق، وقد ذكرت لكم في بعض المناسبات كلمة شيخ الإسلام: استغنِ عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

★فلماذا يضع الإنسان الغل في عنقه، والقيد في يده ورجله، ويجعل الناس يحسنون إليه، ويأسرونه بهذا الإحسان، ويكون مُسترَقاً لهم؟، هذا طبعاً إذا كان من أصحاب الشيم، والنفوس التي تقدر المعروف وأهل المعروف.

★إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله إذا طلبت العون فاطلبه ممن يملك العون، واعلم أن الأمة.. وهذا الكلام الذي بعده أشبه ما يكون بالتعليل له مع زيادة.

يقول: هؤلاء الخلق فقراء مساكين لا تعلق رجاءك وقلبك بهم، تطلب منهم العون وتسألهم، وما أشبه ذلك، فهم فقراء، وإذا أردت أن تعرف فقرهم شاهد صور الجرائد للذين ماتوا في الطوفان، أو في السيول التي قبل أيام، سبحان الله! كأن الناس جراد، كأنهم جراد، ما تدري كيف تخلعت حتى ملابسهم في السيل، كأنهم جراد، فهؤلاء الناس فقراء مساكين، فعلق رجاءك بالله وحده لا شريك له.

★يقول: واعلم أن الأمة… والمقصود بالأمة هنا جميع الخلق.

قوله: لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، ولو كان يسيراً لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ما كُتب لك في اللوح المحفوظ، وكتب لك وأنت في بطن أمك سيأتيك، وإن أبى الخلق، ولو اجتمعوا جميعاً على أن يوصلوا لك شيئاً لم يكتبه الله لك لا يمكن أن يصل، سيتعثر وينقطع، ولن يصل إليك بحال من الأحوال، فلا داعي للمحاولة والتعب، وتبقى عزة المؤمن وتبقى نفسه كريمة لا يستذلها أحد من المخلوقين، إنما يكون ذله لربه.

قوله: وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف، معنى ذلك: أن الأمر قد فرغ منه وانتهى، انتهى كل ما يريد الله أن يصل إليك سيصل إليك، وعليه فلا ينبغي أن يسكت الإنسان عن الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

فنقول: رزقك مكتوب، وما سيأتيك سيأتيك، فعليك القيام بأمر الله ، والاشتغال بتحقيق العبودية، فهذا هو عين السعادة، وهذا هو الطريق الموصل إلى مرضات الله وإلى جنته، وأما هذه الدنيا فأبشر ما كتب لك سيأتيك، وما كتب عليك سيأتيك.

أرأيتم عباد الله 

ٔ كل هذا الخير الذي في هذا الحديث نقله إلينا ابن عباس -رضي الله عنهما ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم – ففي هذا الحديث من التوجيهات للتعامل مع الله والتعامل مع الخلق

كل هذا ببركة السعي والإخلاص في طلب العلم وببركة دعاء سيدنا رسول الله لابن عباس – رضي الله عنهما – .

نال ابن عباس منزلة رفيعة في العلم بسبب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له

★إذا بحث أحدنا عن معنى آية من آيات القرآن الكريم، وتفسير حكم من أحكام القرآن، وذهب إلى كتب التفسير المعروفة؛ كابن جرير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم، وجدنا أن اسمًا من أسماء المفسرين يتلألأ نوره، ويشعُّ وَهَجُه في كل صفحة من صفحات كتب التفسير، ولا يكاد يغيب اسمه عن أي كتاب، ولا توجد آية إلا وله فيها قول أو رأي أو توضيح؛ ذلكم الحَبر الإمام تَرْجُمان القرآن، سيد علماء التفسير، وإمام من أئمة الفقه في الدين؛ عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب الهاشمي القرشي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وقريبه.

★فهل نال ابن عباس هذه المنزلة الرفيعة في العلم، وصار المقدَّم في علم التفسير على غيره، لمجرد أنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأنه كان لديه الاستعداد والعمل في أن يكون كذلك؟ إن الأمر يبدو أنه أقرب إلى الافتراض الثاني، فما أكثر أقارب النبي صلى الله عليه وسلم وأبناء عمومته، ولكنهم لم ينالوا ما ناله ابن عباس!

★كان الفتى القرشيُّ حريصًا على طلب العلم، والتفقُّه في معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، واستغلال أي فرصة تقرِّبه لذلك.

★كانت خالته أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، فلما كان يومها من النبي صلى الله عليه وسلم، ذهب الفتى ابن عباس إليها يعتلُّ بعِلَّة أن أهله طلبوا منه أمرًا من خالته، وبقِيَ في بيتها يرقُب وصول النبي صلى الله عليه وسلم، وانظروا كيف أنه كان يراقب حركة تنقُّل النبي صلى الله عليه وسلم بين بيوت أزواجه، حتى كان يوم خالته ميمونة، فذهب في ذلك اليوم دون غيره، هذا ما يسمى بحسن التخطيط، وصواب الترتيب.

★فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته تظاهر ابن عباس بالنوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نام الغُلَيم))، ثم جلس عليه السلام يتحدث ساعة مع أهله، ثم نام صلى الله عليه وسلم هو وزوجته أم المؤمنين، وابن عباس ثالثهم على وسادة واحدة، رأسه قريب من رأس النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يغمَض له جَفْنٌ، بل ظل مستيقظًا يطالع سقف الغرفة، ويرقُب وقت استيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم .

ليلة كاملة وهذا الفتى يجاهد نفسه ألَّا ينام فيها.

ثم لما كان الثلث الأخير من الليل نهض سيد البشر، وتوضأ وصلى، والعينان الصغيرتان تراقبه وتتابعه، وتسجل كل ما يفعل، فلما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قام الفتى واصطفَّ عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم يصلي معه، فأخذ النبي برأسه وأداره من خلفه، وصفَّه عن يمينه، وصلى معه ثلاث عشرة ركعة، ولما انقضت الصلاة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأس الفتى ودعا له قائلًا: ((اللهم علِّمه التأويل والفقه في الدين)).

وأصابت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم غرضها.

فهل اكتفى ابن عباس بهذه الدعوة، لقد تُوفِّيَ النبي صلى الله عليه وسلم وعمر ابن عباس ثلاثة عشر عامًا، فهل رَكَنَ إلى الدعوة النبوية، واكتفى بها، وانتظر أن يأتيه الفقه والتأويل، وهو يمكث في بيته في انتظار تحقق الدعوة النبوية؟

كان ابن عباس يطلب العلم من أصحاب رسول الله

★لقد استمر ابن عباس في طلب العلم، وصار يدور على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم عن العلم، ويطلب الحديث عندهم، وكان يأتيهم في أوقات مختلفة، حتى في أوقات الظهيرة ينتظرهم حتى يستيقظوا من قيلولتهم، وهو يمكُث خارج البيوت، وقد سفَّت عليه الريح ما سفت من التراب وغيره، لا يغير مكانه يخشى ألَّا يجده مرة أخرى،

★يقول رضي الله عنه : (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير ، فقال : واعجبا لك يا بن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي عليه السلام من ترى ؟ فترك ذلك . وأقبلت على المسألة ، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل ، فأتوسد ردائي على بابه ، فتسفى الريح على التراب ، فيخرج فيراني ، فيقول: يابن عم رسول الله ! ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول :أنا أحق أن آتيك ، فأسألك . قال: فبقى الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي: فقال هذا الفتى أعقل مني ).

في السابعة عشر من عمره كان مستشاراً لعمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه –

★ وظل على هذه الحال وهو يجِدُّ في طلب العلم، حتى رآه البصير بالرجال، صاحب النظرة الثاقبة والعيون الناقدة، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فلما رأى نباهته وذكاءه وحرصه، صار يقرِّبه ويُدنيه، وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، فتًى يبلغ سبعة عشر عامًا يكون جليسًا لعمر بن الخطاب، ومستشارًا له، يُدخِله في مجلس الشورى صحبة أهل بدر والأشياخ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان هذا التقريب محل استغراب من بعض كبار الصحابة، فسألوا عمر عن سبب تقريب هذا دون غيره، ولنا أبناء في مثل سنِّه، فأراد عمر أن يثبت لهم: لماذا ابن عباس دون غيره؟ فسألهم عن قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1] ما معناه؟ فشرَّقوا وغرَّبوا في تفسيرها، ثم التفت إلى ابن عباس وسأله: “ما تقول يا بن عباس؟ فقال: هي سورة أخبر الله فيها نبيه بقرب أجله، ونعى إليه نفسه، فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول، ثم قال كلمته المشهورة: هذا فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول”.

وكان عمر إذا وقعت له مسألة صعبة دعا ابن عباس، وطلب رأيه فيها، فإذا صمت ابن عباس يفكر فيها، كان عمر يقول: “غُص غوَّاصُ، غُص غواص”.

وصايا العباس لابنه عبد الله

ولما رأى العباس بن عبدالمطلب هذه المكانة لابنه في نفس عُمَرَ قال له: “يا بني، إني أرى أنك نزلت من نفس هذا الرجل بمنزلة عظيمة، فإن أردت ألَّا تفقد مكانك عنده، فاجتنب ثلاثًا: الأولى: لا يجرِّبن عليك كذبًا، والثانية: لا تغتابنَّ عنده أحدًا، والثالثة: لا تفشَينَّ له سرًّا”.

ثلاث نصائح كالذهب لكل من يخالط الكبار وأصحاب الرأي والقرار، حتى وقعت حادثة هزَّت شيئًا من ثقة ابن عباس في مكانته، جاء رجل من أهل العراق إلى المدينة، فسأله عمر عن أحوال الناس وصلاتهم وقرآنهم، فقال الرجل: نعم لقد فشا حفظ القرآن وانتشر بين الناس، وحفِظه كثير منهم، فاستبشر الذين هم حول عمر فرحًا بما يسمعون، فقال ابن عباس: وددتُ لو أنهم لم يسارعوا فيه هذه المسارعة، فنظر إليه عمر بغضب وقال: مَهْ – يعني اسكت – فانكسرت نفس ابن عباس، وخرج من مجلس عمر إلى بيت أهله، وقد تغيرت حاله، حتى زاره نساء من بني هاشم يعتقِدْن أن المرض أصابه، وكان يقول في نفسه: لقد نزلت من هذا الرجل منزلًا عظيمًا، ولا أراني إلا سقطت من نفسه، وكانت أمه لامَتْهُ لماذا تحدثتَ في مجلس عمر!!

ثم كانت لحظات حتى جاءه من يخبره: أجِبْ أمير المؤمنين، فخرج فإذا به يجد عمر يقف أمام بيته فأخذ بيده وقال له: ما الذي دفعك إلى قول ما قلت أمام الرجل؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنهم إن يسارعوا في حفظ القرآن دون فهمه والتفقُّه فيه، يختلفون فيه، فإذا اختلفوا تنازعوا، وإذا تنازعوا اقتتلوا، فقال عمر: لله أبوك، لقد كنتُ أكتمها الناسَ حتى جئت بها.

ومرِض ابن عباس مرضًا شديدًا فكان عمر يزوره ويقول له: “لقد أضر بنا مرضك يابن عباس”.

كانت علاقة مميزة بين أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والفتى اليافع عبدالله بن عباس، أساسها الفقه والعلم ونفع المسلمين.

سيدنا عبدالله بن عباس في زمن سيدنا علي

★وفي زمن علي بن أبي طالب تولَّى عبدالله بن عباس إمارة مدينة البصرة، وصار الوالي والأمير بها، فنزل بها أبو أيوب الأنصاري قادمًا من المدينة، فخرج له ابن عباس وقال له: يا أبا أيوب، لأصنعَنَّ بك اليوم ما صنعت بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل دارك بالمدينة، فخرج ابن عباس من بيته هو وأهله وأبناؤه، وأسكنه أبا أيوب الأنصاري وأعطاه إبلًا وغنمًا، وقضى عنه دينه أربعين ألف درهم.

سيدنا ابن عباس وسعة العلم

★جلس ابن عباس في موسم الحج يفسر للناس سورة البقرة، فقال أحدهم: لو سمِع هذا اليهودُ والنصارى لأسلموا، وكان المنادي ينادي: من أراد السؤال عن الفقه فليدخل، فإذا انقضوا نادى المنادي: من أراد السؤال عن القرآن فليدخل، فإذا انقضوا نادى المنادي: من أراد السؤال عن الشعر وأيام العرب فليدخل.

★لقد قال ابن عباس كلمة ما قالها أحد من أهل العلم قبله، ولا يستطيع أحد بعده أن يقولها، لما جاء إلى تفسير قول الله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]؛ قال ابن عباس: “أنا من الراسخين في العلم”.

توفير ابن عباس رضي الله عنهما لأصحاب العلم والفضل

★ورغم القرابة التي تجمعه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنزلته العالية في العلم، فإنه يوقِّر أصحاب الفضل والعلم؛ فقد خرج زيد بن ثابت رضي الله عنه يومًا على دابته، فرآه ابن عباس فسارع إليه، وهو ابن عباس؛ حَبْرُ الأُمَّة، وتَرْجُمان القرآن، فأمسك بزِمام الدابة يقودها لزيد بن ثابت كاتب القرآن الذي بين أيدينا، فقال زيد: “دَعْ هذا يا بن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بعلمائنا، فأخذ زيد يدَ ابن عباس فقبَّلها وقال: هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا”.

وإليك موقفاً من مواقف حكمته، وسرعة بديهته، وبلاغته:

لما اعتزل بعض أصحاب علي رضي الله عنه في نزاعه مع معاوية رضي الله عنه، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه؟: ائذن لي، يا أمير المؤمنين، أن آتي القوم وأكلمهم.

فقال إني أتخوف عليك منهم.

فقال: كلا إن شاء الله.

ثم دخل عليهم فلم ير قوما قط أشد اجتهادا منهم في العبادة.

فقالوا: مرحبا بك يا بن عباس.. ما جاء بك؟!

فقال: جئت أحدثكم.

فقال بعضهم: لا تحدثوه.

وقال بعضهم: قل نسمع منك.

فقال: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله وزوج ابنته، وأول من آمن ؟!

قالوا ننقم عليه ثلاثة أمور.

قال وما هي ؟!

قالوا أولها: أنه حكم الرجال في دين الله.

وثانيها: أنه قاتل في صفين والجمل ولم يأخذ غنائم ولا سبايا.

وثالثها: أنه محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين مع أن المسلمين قد بايعوه وأمروه.

فقال: أرأيتم أن أسمعتكم من كتاب الله، وحدثتكم من حديث رسول الله ما لا تنكرونه، أفترجعون عما أنتم فيه؟

قالوا نعم.

قال أما قولكم: انه حكم الرجال في دين الله، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم)).

أنشدكم الله، أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات بينهم أحق أم حكمهم في أرنب ثمنها ربع درهم؟!

فقالوا: بل في حقن دماء المسلمين وصلاح ذات بينهم.

فقال: أخرجنا من هذه؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم: إن علياً قاتل ولم يسب كما سبى رسول الله.

أفكنتم تريدون أن تسبوا أمكم عائشة وتستحلونها كما تستحل السبايا؟!

فان قلتم: نعم، فقد كفرتم.

وان قلتم: إنها ليست بأمكم كفرتم أيضا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم)).

فاختاروا لأنفسكم ما شئتم.

ثم قال: أخرجنا من هذه أيضا؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم: إن علياً قد محى عن نفسه لقب أمير المؤمنين، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب من المشركين يوم الحديبية أن يكتبوا في الصلح الذي عقده معهم ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)) قالوا: لو كنا نؤمن أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: ((محمد بن عبد الله)) فنزل عند طلبهم وهو يقول: (والله إني لرسول الله وان كذبتموني).

فهل خرجنا من هذه؟

فقالوا: نعم.

وكان من ثمرة هذا اللقاء، وما أظهره فيه عبد الله بن عباس من حكمة بالغة وحجة دامغة أن عاد منهم عشرون ألفا إلى صفوف علي، وأصر أربعة آلاف على خصومتهم له عنادا وإعراضا عن الحق.

حسن الخاتمة لسيدنا ابن عباس

★مكث ابن عباس في مكَّةَ بعد رجوعه من البصرة، وأصابه العمى في آخر حياته،ولشدة إيمانه أنه لما وقع في عينه الماء أراد أن يتعالج منه فقيل له: إنك تمكث كذا وكذا يوما لا تصلي إلا مضطجعا فكره ذلك.

★ ثم اختلف مع ابن الزبير الأمير على مكة وما حولها، فخرج إلى الطائف وأقام بها، حتى أدركه الأجل في الطائف ومات بها، ورَوَتْ كتب التاريخ حادثةً تكاد تكون من الغرائب، ولولا تواتُرُها في كتب التاريخ لَما صدَّقها العقل، قالوا: لما حُمِلَ نعش ابن عباس إلى قبره، ووضع في لحده، فإذا طائر من السماء يأتي فيدخل في أكفان ابن عباس ولم يخرج منها، دخل في أكفان الرجل الذي فسَّر كتاب الله آية آية، ولما دُفِنَ كانت رائحة المسك تفوح من تراب قبره، حتى صار الناس يأتون ويأخذون من ترابه، حتى أمر أمير الطائف يومها بوضع الحراس على القبر يمنعون الناس من ذلك، وبقيت رائحة المسك شهرًا وهي تفوح من قبره رضي الله عنه.

أيها المسلمون، هذه لمحات من سيرة صاحب القرآن وإمام المفسرين، ومثال عظيم يذكره الآباء لأبنائهم، وقدوة لجميع المسلمين في حفظ القرآن وتعلمه وتعليمه، واسم راسخ يقتدي به الصالحون ويتتبعون أخباره ومواقفه، خيرٌ ألف مرة من كل التفاهات التي تملأ الفضاء اليوم، ابن عباس وأمثاله هم قدوتنا، وهم من نتابع أخبارهم، وهم من يجب علينا معرفة سيرتهم وروايتها وبثها بين الناس، لكيلا نغرق في التفاهة، ولا يحاصرنا العدم، ويلبسنا التمزُّق.

الدعاء …

أسأل الله لي ولكم حسن القول والعمل.

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وانصر عبادك المستضعفين، اللهم إنَّا نسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغِنى، اللهُمَّ إنا نسألك حُبَّك وحُبَّ عَمَلٍ يُقرِّبْنا إلى حُبِّك، اللهُمَّ حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم احفظنا بحفظك، ووفِّقْنا إلى طاعتك، وارحمنا برحمتك، وارزُقْنا من رزقك الواسع، وتفضَّل علينا من فضلك العظيم، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خير مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

اللهُمَّ واحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وفجور الفاجرين، واعتداء المعتدين، ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 180 – 182].