الهجرة ميلاد الإنسانية ( اللقاء الثالث : معجزة القرآن الخالدة )
3 يوليو، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف
كان هناك بمكة عقلاء رأوا سفاهة أحلام القوم في عبادتهم للأصنام، فذهبوا يبحثون عن دين إبراهيم الخليل عليه السلام ليعبدوا الله عليه، فقد نبذوا عبادة الأصنام، ورأوا أنه ليس من العقل عبادتها.
لم يتبقَّ من صحف إبراهيم الخليل عليه السلام شيء يُدرك، ولكن كانت هناك التوراة والإنجيل، وكانت النصرانية هي أقرب ما يكون لاعتناق الناس لها، لما لعلمائها وقساوستها من وداد وتراحم مع الخلق.
في ذلك يقول الله تعالى:
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
وكان ممن يبحثون عن عبادة الله وتوحيده ورقة بن نوفل، ابن عم السيدة خديجة رضي الله عنها، فقرأ كتب النصرانية وتنصر، وتبحر فيها حتى صار من علمائهم.
وبعدما أكرم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، كان ورقة بن نوفل وقتها شيخًا كبيرًا قد عَمي، كما قال الذهبي.
فذهبت إليه خديجة، فأخبرته بما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، وكيف جاءه جبريل عليه السلام، كما أخبرها الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال ورقة:
“قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، إن كنتِ أصدقتِني يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت.”
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بقول ورقة.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطوف بالبيت، فلقيه ورقة، فقال:
“يا ابن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت.”
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ورقة:
“والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي كان يأتي لموسى، ولتُكذَّبن، ولتُؤذَين، ولتُخرَجن، ولتُقاتَلن، ولئن أدركتُ ذلك اليوم، لأنصرن الله نصرًا يعلمه” ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّل رأسه.
ثم لم ينشب ورقة أن توفي قبل أن يظهر الإسلام.
لقد كان ورقة من أهل الكتاب الذين استقاموا لله، فلم يكتم الحق، فصفة رسول الله مذكورة في التوراة والإنجيل، كما ورد في القرآن الكريم، حيث بشر به موسى عليه السلام، وبشر به عيسى عليه السلام، وما من نبي إلا بشر به قومه، وتمنى أن يكون من أتباعه.
لقد نص القرآن الكريم أن أهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
كانت الكثرة منهم تكتم الحق، ولكن كان منهم المنصفون له، كما قال الله تعالى:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌيَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وَأُوْلَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).
كان من هؤلاء ورقة بن نوفل، ولكنه لم يكن مجرد “حبرا” أو” عالما” بل كان باحثًا في بداية أمره عن الدين الحق، الذي يدين به لله، ويعبد ربه على قبول ورضا، عبادة حقيقية، وليست هوى نفس أو عنادًا ومكابرة.
لذا، كان موقفه واضحًا من النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال: “لو عشت حتى يُظهره الله، لأنصرن الله نصرًا يعرفه.”
ليظهر بكلماته القليلة هذه، أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، دينهم واحد، هو الدعوة إلى عبادة الخالق سبحانه وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
فقال: “لأنصرن الله نصرًا يعرفه.”
لأن اتباع الحق، واعتناق الحقيقة، هو نصر لله سبحانه وتعالى.
لقد كان في أهل الكتاب على شاكلة ورقة بن نوفل كثيرون.
فقد سبق هذا الحدث حادثة بحيرى الراهب، وكان من أحبار يهود،
لقى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يافع، مع عمه أبي طالب، ابن اثنتي عشرة سنة، في إحدى رحلات التجارة إلى الشام.
كما في الرحيق المختوم:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغ اثنتي عشرة سنة ـ قيل: وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام،
حتى وصل إلى بُصْرَى، وهي معدودة وقصبة لحوران ، وكانت فى ذلك الوقت قصبة للبلاد العربيه التى كانت تحت حكم الرمان ،
وكان في هذا البلد راهب عرف بـ “بحيرى”، واسمه – فيما يُقال – جُرجيس.
فلما نزل الركب، خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك،
فجعل يتخللهم حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقال: “هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.”
فقال له أبو طالب وأشياخ قريش:
وما علمك بذلك؟
فقال:
“إنكم حين أشرفتم من العقبة، لم يبقَ حجر ولا شجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنا نجده في كتبنا.”
ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام، خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
لقد كان خبره منتشرًا معلومًا لدى أهل الكتاب قبل بعثته.
فهناك في أرض يثرب، والتي تنورت بهجرته صلى الله عليه وسلم إليها فيما بعد،
كان بعض قبائل اليهود تساكن الأوس والخزرج،
وكانت الحرب بينهم سجالًا.
وكان اليهود يستفتحون على مشركي العرب بالنبي المنتظر، فكانوا ينتظرون ظهوره ليتبعوه، ليظهروا به على العرب ويخضعوهم.
فهو نبي آخر الزمان، الفاتح، والذي سيُظهره الله على العرب والعجم، كما هو في كتبهم.
كانوا إذا انتصر مشركو يثرب عليهم، يستفتحون عليهم بقولهم:
“ثَمَّتَ زمان نبي قد أطَلَّ، لنتبعنه ولنقتلنكم تقتيل عاد وإرم!”
ولكن لما ظهر من العرب، ولم يظهر من بني إسرائيل، كفروا به، واتبعته العرب.
يقول الله تعالى:
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ، مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
فكان استفتاحهم بالنصر على العرب مرهونًا ببعثته صلى الله عليه وسلم،
ولكن كفروا به لأنه من العرب،
ليعلم العرب أن النظرة الدونية إليهم من هؤلاء قديمة، مغروسة في قلوبهم ومعتقدهم.
ولكن – للأسف الشديد – بالجهل ونسيان التاريخ، ننخدع لهم.
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
“يأتي زمان على أمتي، لو سلك فيه اليهود والنصارى جُحر ضَبٍّ، لسلكوه خلفهم.”
ربما يكون هذا هو الزمان… الله أعلم.
انتظرونا لنتم ما بدأناه بإذن الله تعالى.
كل عام وأنتم بخير.