الوهابيون يمزقون الامة الاسلامية نصفين

 

المقال السابع عشر من سلسلة رواية (قرن الشيطان)

 

للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي

 

الميثاق فوق الرمال:

كانت السماء تنذر بمطر، لكن الرمال ظلت جافة، وكأنها ترفض أن تُغسل من الدماء القديمة. في صحراء نجد، تحت شمسٍ لم تعرف الهدوء، اجتمع رجلان سيكتبان بأسمائهما فصلًا دامغًا في تاريخ الجزيرة. محمد بن سعود، أمير الدرعية، ومحمد بن عبدالوهاب، الداعية المثير للجدل، التقيا لا على عقيدة وحدها، بل على حلم سلطوي مشترك، بُنِي على رماد المدن وآهات المنفيين.

لم يكن هذا اللقاء الأول بين سلالة آل سعود والدعوة الوهابية، لكنه كان الأكثر حساسية. وصلت إلى محمد بن سعود أخبار محمد بن عبدالوهاب المتنقل بين العيينة، وحريملاء، والرياض، مُطارَدًا من فقهاء، ومطرودًا من أمراء، ومُتهَما من الناس بإثارة الفتنة. غير أن ما أثار فضول ابن سعود لم يكن الجانب العقدي فقط، بل ما تحمله دعوة ابن عبدالوهاب من إمكانية قلب المشهد السياسي في نجد.

في إحدى ليالي عام 1744، جلس الرجلان داخل مجلس متواضع في قصر الطين. كان المجلس شبه معتم، إلا من وهج الفوانيس، وأحاديث الحرّاس خلف الجدران. محمد بن سعود، رجل الصحراء وصاحب الطموح، نظر طويلًا في عيني ضيفه وقال:

– “يا شيخ، يقول الناس إنك تكفّرهم.”

ابتسم ابن عبدالوهاب بتأنٍ، كمن تعوّد على هذا السؤال، وردّ بصوت خافت لكنه حاد:

– “يا أبا مقرن، لا أكفّر من قال لا إله إلا الله مخلصًا، لكنّي لا أساوم على التوحيد، ولا على إزالة الشرك، ولو كلفني ذلك حياتي.”

صمتٌ طويل تبعه ارتشاف القهوة، ثم قال ابن سعود:

– “وإذا نُصِرت دعوتك، فهل تكفّ يدك عن مالي وسلطاني؟”

ردّ ابن عبدالوهاب دون تردد:

– “الدم بالدم، والهدم بالهدم، لكن ما لنا من غنيمة فهو لنا، وما لك من سلطان فلك إن نصرت الدين.”

كان هذا بداية الميثاق: أن تكون الدعوة سلطة شرعية، وأن تكون الدولة سيفها التنفيذي.

لم يكن الاتفاق محض صدفة، بل خطة أُعدّت بدقة. لقد أدار محمد بن عبدالوهاب ظهره لحريملاء والعيينة، بعد أن طرده أهلها خشية الفتنة، ووجد في محمد بن سعود رجلًا عطشًا للشرعية والاتساع. ومن جهته، رأى ابن سعود في هذه الدعوة فرصة لتوحيد القبائل تحت راية “الدين الصافي”، لا حبًا خالصًا في التوحيد، بل لإسباغ القداسة على طموحه السياسي.

انتشرت البنود غير المعلنة للاتفاق كالنار في الهشيم:

أن يُسمح لابن عبدالوهاب بالدعوة والإفتاء وتكفير من يراه مستوجبًا لذلك.

أن تكون الأراضي المفتوحة غنائم تُقسَم، منها ما يذهب للدعوة، ومنها ما يعود لبيت المال.

أن يُهدم كل ضريح، ويُمنع التبرك، وتُغلق حلقات الذكر الصوفي.

وفي روايات أخرى، قيل إن ابن سعود لم يُوقّع على الميثاق حتى ضمنت له زوجته، وكانت أختًا لابن عبدالوهاب، أن الأخير لن ينازع الأمير في حكمه ولا في ماله.

كانت هذه اللحظة بداية الحلف الوهابي-السعودي الذي سيغيّر تاريخ الجزيرة. حُرِقت القرى، وهُدِمت القباب، وهاجرت عائلات كاملة من نجد خوفًا من التكفير والقتل. وفي المقابل، توسعت دولة آل سعود بسرعة غير مسبوقة، ووصلت جيوشهم إلى أجزاء من الحجاز والأحساء، ترفع راية “لا إله إلا الله”، لكنها تقاتل أحيانًا مسلمين لا يختلفون إلا في فقه فرعي أو تقليدٍ متوارث.

لم يكن محمد بن عبدالوهاب غافلًا عن الثمن. كان يعلم أن سيف ابن سعود لن يفرّق دومًا بين ضريح بدعة ومسجد جماعة، لكنه آمن بأن النقاء لا يُصنَع إلا بالنار. وكان محمد بن سعود يعلم أن دعوة الشيخ ستحمّله أوزارًا سياسية ودينية أمام خصوم الداخل والخارج، لكنه رأى فيها فرصة لحكم لا يُنازع عليه.

جاءت الوفود إلى الدرعية من كل مكان: فقهاء ليدافعوا أو يُعارضوا، شعراء ليمدحوا أو يهجوا، تجار يتوسلون لعدم مصادرة أموالهم باسم “الردّة”، ونساء تبكين قبور أمهاتهن وقد صارت ترابًا.

وفي إحدى الليالي، نظر ابن عبدالوهاب إلى السماء، وهمس لنفسه:

“لقد صعدت دعوتي على أكتاف جيش، فهل تظلُّ دعوة، أم تتحول إلى دولة؟ وهل بقي لي شيء من حلم البداية، أم أن السيف قد كتب النهاية؟”

أما ابن سعود، فكان يحتفل في قصره باتساع رقعته، وهو يقول لأحد خلصائه:

– “الدرعية باتت أمّ الممالك. ومن تكلّم في الدين، وجد له شيخًا. ومن تكلّم في المال، وجد له أميرًا.”

ووسط هذه التبادلات، وُلد حلفٌ سيُلعن في كتب بعض المؤرخين، ويُمجَّد في كتب آخرين، لكنه ظل حلفًا لا يعرف رماديًا.

كان ميثاقًا كُتب فوق الرمال، لكنه نُقِش في التاريخ بالحديد والنار.

 

آخر الظل، أول النار:

حينما غابت شمس اليوم الذي بايع فيه محمد بن عبدالوهاب الأمير محمد بن سعود على إقامة دولة “التوحيد”، لم يكن أحدٌ في الدرعية يدرك تمامًا أن شيئًا أشبه بالجمر قد دُفن تحت التراب، وأن هذه البيعة ستنقش على جبين الجزيرة العربية بلون الدم والدخان.

كان محمد بن عبدالوهاب في تلك الليلة يسير وحده في بستان مهجور، قريب من أسوار الدرعية، يتأمل نخلاً صامتًا وصخورًا تعرف خطاه كما يعرف هو حروف كتبه. لم يكن الليل قد اشتد بعد، لكن سكونه كان كثيفًا. كان يشعر أن العالم من حوله يتنصت، وأن كل ورقة تسقط في الظلام تهمس له بأسئلة لن يجيبها.

في ذهنه، لم تكن البيعة مجرد اتفاق سياسي؛ كانت تتويجًا لنبوءة روحية كان يراها في نفسه منذ أن وطأت قدماه أرض نجد مجددًا بعد أسفاره. كان يوقن أن الله اختاره ليعيد الدين إلى “صفائه الأول”، لكنه لم يكن يجهل أن الطريق إلى ذلك سيعبر فوق أجساد كثيرة.

في ذلك الوقت، بدأ الحلف يثمر ماديًا. زحف مقاتلو آل سعود على العيينة ثم على الحريملاء، وأُجبر الناس على إعلان البيعة وفق شروط الشيخ، وليس وفق رغبة الجماعة. في كل بلدة دخلها جيش “الدعوة والدولة”، كانت تُحطم القباب ويُجرف التراب عن قبور الأولياء، وتُحرق كتب التصوف، ويُطلب من الناس أن يجددوا إسلامهم.

ولم يكن هذا يُنفّذ دائمًا بسلاسة. في إحدى رسائله إلى أحد قادة الجيش، كتب محمد بن عبدالوهاب:

“أمهِلوا أهل البلد ثلاثة أيام، فإن أبَوا التوحيد وجب الجهاد فيهم.”

ولم يكن مصطلح “الجهاد” عنده مقصورًا على الكفار أو المشركين حسب المعهود، بل صار يطال من يُحبّ وليًا، أو يقيم مولدًا، أو يتوسل بقبر نبي.

كتب المؤرخ العثماني عبد الغني النابلسي في حاشيته عن أخبار نجد:

“جاءنا نبأ عن قوم من نجد، يرفعون السيف على من يُنشد شعرًا في مدح النبي، ويجلدون من يطيل الصلاة عليه، وسمعنا أنهم يقولون: لا حب في الدين، الدين أمر ونهي ووعيد.”

كان هذا الحلف في عمقه أشبه بمزادٍ مفتوح على السلطة، يتقاسمه رجل دين ومقاتل قبلي. محمد بن عبدالوهاب وجد في محمد بن سعود سيفًا، ومحمد بن سعود وجد في محمد بن عبدالوهاب غطاءً شرعيًا لكل توسع.

وكتب أحد أحفاد آل مشرف (أقارب محمد بن عبدالوهاب) في رسالة سرية وصلت لاحقًا إلى إسطنبول:

“ما عُرف فينا من يطلب الإمارة، ولا من يُقسم الناس إلى مسلم وغير مسلم على لسانه، إلا هذا الرجل. حتى صار الولد يكفر أباه إن صلى على النبي جهرًا، ويضرب أخاه إن مدح وليًا صالحًا.”

بدأت عائلة محمد بن عبدالوهاب نفسها تنقسم عليه. أخوه سليمان بن عبدالوهاب ألّف كتابًا بعنوان الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية، وفيه قال:

“يا قوم، إن أخي ليس نبيًا، وليس معه وحي، فلم يُجعل الناس بين كافر ومسلم بحسب فهمه!”

محمد بن عبدالوهاب ردّ على أخيه بلطف في الظاهر، فكتب في إحدى رسائله:

“أخي سليمان أخطأ، وعذره الجهل.”

لكن في المجالس، كان يُتهم سليمان بالضلال، وتُحظر كتبه، وتُلاحق مجالسه.

في هذا الفصل من التاريخ، كان الحلف يزداد غِلظة، وكان الدم يزداد جريانًا.

هُدمت قباب في الأحساء، وجُلد رجال في مكة حين امتدت الدعوة خارج نجد بدعم من ابن سعود.

في ذات مرة، حين وصلت أنباء إلى الشيخ أن أهل إحدى القرى أعادوا بناء قبة فوق قبر ولي، قال في خطبة الجمعة:

“إن من عاد إلى الشرك بعد دعوة التوحيد فقد ارتد، ويُستتاب، فإن أبى فالسيف له دواء.”

وبدأ الناس يتساءلون: هل هذه دعوة إصلاح، أم إعادة تشكيل الإسلام وفق تصور ضيق؟

في إحدى الجلسات الخاصة، قال أحد كبار آل سعود للشيخ:

– “يا شيخ، الناس يخافونكم أكثر مما يحبون دعوتكم.”

فرد محمد بن عبدالوهاب:

– “الخوف من الله إن جاء عن طريقي فذلك فضل، لا عيب.”

ثم كتب في دفتره:

“ليس لي مع الناس رِقة من دون حدود. إن أقاموا على البدعة فلا حق لهم في الرحمة، لأن الله لا يرحم من أشرك.”

لكن بين دفتي قلبه، كان صوت قديم يهمس: “هل نسيت يوم كنت صبيًا تبكي في حضن أمك حين تُخطئ؟ هل تُخطئ الأمة كلها ولا تبكي؟”

في تلك المرحلة، كانت أخبار الدرعية تملأ الآفاق. الحجيج يأتون من الهند واليمن ومصر، ويرون التغيير الجذري، ويعودون إلى بلادهم وهم بين مَن يدعو للدعوة الجديدة ومَن يحذّر منها.

في الهند، كتب أحد علماء ديوبند رسالة جاء فيها:

“رأيت القوم، لا يرحمون ضعيفًا، ولا يسمعون شافِعًا، الدين عندهم حدٌّ وسيف، وأما الرحمة، فأمر لا يُذكَر.”

وفي القاهرة، كتب أحد الأزهريين:

“ما رأينا قومًا يجعلون العقيدة بابًا للموت، إلا هؤلاء.”

لكن محمد بن عبدالوهاب كان ماضٍ في طريقه.

كتب في آخر رسالة أرسلها قبل موته:

“الحمد لله الذي مكّنني من إقامة دينه، ولو بسيف، فإن القلوب لا تنقاد إلا به.”

وحين مات، لم يُغسله إلا خاصته، ودُفن في الدرعية دون أن تُشيع جنازته علنًا، خوفًا من الغضب، لا من الحزن.

وحين وقف أحدهم على قبره، قال:

– “يا محمد، أيّ دينٍ أقمته؟ إنك مزّقتنا نصفين: نصف يراك نبيًا، ونصف يراك فتنة.”

وسكت الهواء…

كأن الأرض نفسها لم تحسم أمرها بعد: هل مات رجلٌ صالح، أم حاكمٌ باسم الدين؟