المقال الحادى عشر من سلسلة رواية (قرن الشيطان) للكاتب / محمد نجيب نبهان كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
وسوسات الفقهاء:
لم يكن محمد بن عبدالوهاب ليخطو خطواته في الفراغ. كانت الأرض من تحته محروثةٌ بمئات السنين من التأويلات، والتشريعات، والاجتهادات التي نسجها فقهاء ومفسرون ومحدّثون، كلٌّ منهم نصب لنفسه محرابًا من الورق، وجعل من مداد القلم شريعةً لا يُردّ عليها رأيٌ أو مراجعة.
حين جلس ذات صباحٍ على أطراف وادي حنيفة، بعيدًا عن أعين المريدين، وبين يديه أحد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، كانت النسائم تأتي من جهة الشمال، رطبة وباردة على غير عادة الصحراء. امتدت أمامه صفحات التاريخ العقائدي الذي لطالما رآه مثقلًا بالخوف من الناس، لا الخوف من الله. كل سطر في الكتاب كان يشعل في داخله رغبةً في إعادة التأسيس، لا على نصٍ ثابت، بل على ما يراه هو “حقًا صرفًا”.
ومع كل صفحة، تزداد قناعته أن الفقهاء – أو ما يسمّيهم بينه وبين نفسه بـ”الفقهاء الموظّفين” – قد أسّسوا دينًا موازيًا لدين الله. دينًا لا يعترف إلا بالسلاسل، لا في السند، بل في الطاعة. سلسلة طويلة من المشايخ يُقاس بها الحق لا بالدليل، بل بالهيبة.
في إحدى الرسائل التي تلقّاها من المدينة، كتب له أحد طلابه القدماء، وقد انضم إلى أحد الطرق الصوفية:
“شيخي، إنني أراك اليوم تكثر من الضرب، لا التعليم، وتطارد الزلل لا تزكية النفس، فهل هذا ما خرجنا به من طلب العلم؟ هل صرنا فقهاء رقابة، لا فقهاء رحمة؟”
قرأ الرسالة، ثم طواها دون أن يجيب. لكنه كتب في دفاتره:
“إنهم لا يفهمون أنني أحارب الزمن لا الناس، وأنني في حربٍ دينية لم أختَرها بل فُرضت علي، لأنني حين رأيتُ الناس يطوفون حول قبور الأولياء، ويقضون الليل في تمائمٍ وذِكرٍ لا يُعرف له أصلٌ في الشرع، عرفت أن الفقهاء خانوا، أو صمتوا. وكلاهما جريمة.”
ومع ذلك، لم يكن مرتاحًا. كان ثمة صراع خفي بينه وبين جماعة من العلماء في نجد والأحساء والحجاز، الذين بدأوا يشنّون عليه حربًا من تحت الطاولة. يلمّحون في خطبهم أنه مبتدعٌ في التفسير، ويقولون في مجالسهم إن فتواه أقرب إلى فقه الخوارج منها إلى فقه أهل السنة.
كان أحدهم – شيخ من الحنابلة في الرياض – قد قال علنًا:
“إن محمد بن عبدالوهاب يرى أنه وحده على الحق، وأن كل مخالفٍ له مشرك، وهذا من الغلوّ الذي لم يعرفه سلفنا الصالح.”
ردّ عليه محمد في رسالة قصيرة، لكنّه دوّن في هوامشها عشرات التعليقات النارية:
“من رضي بالقبور أن تُعبد، فقد عبدها قلبه، وإن أنكرها بلسانه. فكيف تُنكر عليَّ أنني أفضح الشرك، وأنت تجامله بحجة درء الفتنة؟!”
كان يزداد يقينًا أن هؤلاء الفقهاء لا يُنكرون المنكر، بل يصنعون له غلافًا من فقه الواقع والمصلحة والتدرج، حتى يصبح المنكر عادة، ثم عرفًا، ثم طاعة. وداخل هذا الصراع، بدأ يسأل نفسه: هل يمكن أن يكون علماؤنا أكثر خطرًا من الجهلة؟ وهل يكون المدافع عن الشرك – بعذر الجهل – أخطر ممن يقع فيه؟
في أحد مجالسه المغلقة، وبين مجموعة من المقربين، صرخ في لحظة انفعال:
“لو أنّ عمر بن الخطاب بيننا، لجلدهم! هؤلاء الذين يجعلون الدين طريقًا إلى الرياء! هؤلاء الذين يرون السُّنة في عباءة شيخ، لا في الدليل الصريح!”
كان يعرف أن كلامه سيُنقل، وسيُحرف، لكنه لم يكن يبالي. لقد بلغ به الغضب على المؤسسة الدينية ما لم يبلغه حتى الغضب على الممارسات الشعبية الخرافية. لم يكن يرى نفسه فقط مجددًا، بل مخلّصًا مما أسماه “الاستبداد الفقهي”.
ولأنّ الدعوة لا تكتمل بلا أدوات، فقد قرّر أن يُدون سلسلة رسائل سماها: “كشف الشبهات”، وجعل هدفها أن تكون معولًا يهدم تبريرات الفقهاء الذين يرون في بعض مظاهر الشرك نوعًا من الجهل المغفور. كتب في مقدمتها:
ـ “اعلم – رحمك الله – أن الله لم يبعث نبيًا إلا بدأ بدعوة قومه إلى التوحيد، لا إلى السلوك، ولا إلى السياسة، ولا إلى العلم، فالتوحيد هو البداية والنهاية. ومن جادلك في التوحيد، فاعلم أن الشبهة في قلبه لا في عقله.”
وفي هذه الرسالة، بدأ يُقسّم الناس ليس فقط إلى موحّد ومشرك، بل إلى:
المموّه الذي يُلبّس على الناس
المتردّد الذي يخشى الصدع بالحق
الفقيه الذي يشتري برأيه عافية السلطة
وتدريجيًا، صارت رسائله تُقرأ كفتاوى، وفتاواه تُقرأ كأوامر. وكان في كل هذا يرى نفسه مؤتمنًا لا متسلّطًا، لكنه لم ينتبه – أو تجاهل – أن صوته صار أعلى من النصوص ذاتها.
وفي إحدى الليالي، حين كان يراجع بعض الهوامش في كتابه عن التوحيد، دخل عليه أحد مريديه، وهمس له:
– “شيخنا، أحد الفقهاء في الأحساء افتى بأنكم خوارج العصر…”
سكت محمد، ثم تمتم:
– “بل هو من مرجئة العصر.”
ثم كتب في دفتره:
“إذا اتُّهِم المصلح بأنه خارجي، فاعلم أن الفقه صار سكينًا في يد الطغاة.”
وبينما يغلي صدره بالكلمات، ويكاد القلم يتكسّر بين أصابعه، كان يهمس لنفسه:
“لن أُجامل من لبس العمامة ليخدع الناس. هؤلاء هم الثعبان الذي في جوف الأمة… وها أنا قد فتحت فمي.”
ولم يدرك أنه بذلك أدخل رأسه في فم الثعبان… الذي يُلدغ من الداخل.
في هذه الليلة، لم يكتب في دفاتره فقط، بل كتب على جدران نفسه أن لا رجعة عن الحرب. حرب ليست فقط على الشرك الشعبي، بل على فقهاء السلطة.
وفي قلب الصحراء، كان محمد بن عبدالوهاب يرسم خارطة جديدة: عقيدة تُنقّى بالنار، وسلطة تُبنى باسم الله، وعدوٌّ يُسمى: الفقيه الذي يبرر كل شيء.
السجال الأول مع المريدين:
حين بدأ محمد بن عبدالوهاب يرى شبح الدولة يقترب من ظلال دعوته، كان يدرك أن خطابه لم يعد مجرد صيحات إصلاحية، بل خارطة قتال. لم يكن وحده في تلك الليلة التي سبقت أول سجال علني بينه وبين بعض مريديه في مسجد الدرعية. كان بصحبته قلمه، ومحابر كثيرة نفدت منها الطمأنينة.
المريدون الذين لطالما هتفوا له في مجالسه، ودوّنوا كلماته كما تُدون الوصايا، بدأ بعضهم يرتاب. لم يكن السبب في العقيدة وحدها، بل في الوجه الجديد الذي بدأت الدعوة تتخذه: وجه الحكم والحدود، والدماء التي تراق باسم التوحيد.
في المسجد الصغير الذي احتشد فيه العشرات، تقدّم شاب يُدعى عيسى بن عثمان، أحد أول تلاميذ الشيخ، وقد قرأ عليه كتاب التوحيد أكثر من مرة. قال بصوت خافت ولكنه ثابت:
– «يا شيخ، ألسنا متفقين أن لا إكراه في الدين؟ فلماذا أصبح من يختلف معنا في الرأي يُعاقب؟»
أجابه محمد بن عبدالوهاب وهو يطالع الجالسين بعين نصفها واثق ونصفها قلق:
– «ليس في الأمر إكراه، بل تصحيح للمفاهيم، وحماية للناس من الشرك.»
لكن عيسى لم يصمت:
– «يا شيخ، هل كل من توسل، أو طلب الشفاعة، أو زار قبرًا، هو مشرك؟ أليس بين الجهل والردة مسافات؟»
هنا، تعالت همهمات في المجلس، وانقسم الحضور إلى من صُدم، ومن بدأ يُعيد حساباته.
محمد بن عبدالوهاب رد بنبرة صارمة:
– «من عبد الله بغير ما شرع فقد أشرك، والحق لا يُقاس بالعواطف، بل بالدليل.»
عندها قام أحد كبار الموالين واسمه عبدالمحسن الحربي، وقال:
– «سيدي الشيخ، نحن نبايعك على هذا، لكن ألم يقل ابن تيمية إن العذر بالجهل يُقبل في بعض الأحوال؟»
هنا توقف محمد، وشعر أن السجال لم يعد سؤالًا عن فتوى، بل عن الوجهة الكبرى للدعوة.
قال ببطء:
– «ابن تيمية قال، وابن القيم قال، ولكنهم لم يعيشوا انحرافات عصرنا. لقد رأينا بعيننا كيف يُعبد القبور، وكيف تُصرف الأدعية لغير الله، والمجتمع يصفق. هل نسكت؟»
تقدّم شاب آخر، وكان من أهل العيينة، وقال:
– «لكنكم يا شيخ، في كل مرة تختلفون مع فقيه، تقولون إنه مبتدع، وإن صوفيًا يُخشى على إيمانه، وتُقصون من لم يُجاهر معكم. ألم تتحوّل الدعوة إلى سيف؟»
في هذه اللحظة، ساد صمت ثقيل. الشيخ أمسك لحظات بلحيته، ثم قال:
– «والله ما أردت بها إلا وجه الله. ولكن إن سكتنا، عمّ الفساد. والدولة لا تُبنى إلا بالتوحيد.»
ثم رفع صوته وقال:
– «من منكم يرضى أن يعيش في بلد يُدعى فيه لغير الله؟ أو يُستغاث فيه بغيره؟ أو تُقدس فيه القبور أكثر من المساجد؟»
ردّ أحد العقلاء بهدوء: – «نرضى يا شيخ أن يُنكر المنكر، ولكن نخشى أن يتحول الإنكار إلى قمع، والدعوة إلى استبداد.»
ابتسم محمد بن عبدالوهاب ابتسامة باهتة، وقال:
– «أنتم أبنائي في الدعوة، وأعلم حرصكم. ولكن النار لا تطفأ بالندى.»
بعد تلك الليلة، تغيّر شيء في الوجوه.
خرج بعض المريدين من دائرته، وصاروا يتحدثون همسًا عن التحوّل الذي أصاب الدعوة. قال بعضهم إنه لم يعد شيخًا، بل أميرًا بثوب شيخ. وقال آخرون إن الصدق لا يُقاس بالنية فقط، بل بالنتائج.
وبينما كان محمد يراجع في اليوم التالي فتاوى كتبها بيده عن هدم القباب، وتحريم الاستغاثة، وتكفير العوام، خطر له سؤال لم يجرؤ أن يكتبه:
«هل سأحاسب على نية الإصلاح، أم على كل دمٍ سال؟»
ورأى في نفسه انعكاس ما كتبه قبل سنين:
«التوحيد سيف، فإن لم يُشهر على الباطل، أكل الباطلُ كل شيء.»
لكن هل شُهر السيف فعلًا على الباطل، أم صار حادًا على الرقاب الرخوة، وساكنًا في حضرة الأقوياء؟
وفي مساء ذلك اليوم، حين دخل مجلس الأمير محمد بن سعود، لم يكن رجل دين فقط، بل قائد مشروع… تتقاطع فيه العقيدة مع السياسة، والإيمان مع القوة، والحبر مع الدم.