حين تسلل الرمل إلى النيل قصة التوغّل الوهابي في الأزهر الشريف بين التاريخ و الفكر و الاجتماع
24 أكتوبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الأستاذ: وليد عبدالله الشاذلى
قراءة في توغّل الفكر النجديّ إلى قلب المؤسسة الأزهرية :
تمهيد :
في رَحاب الأزهر الشريف تلك القلعة التي ظلّت قرونًا تلو قرون منارةَ الإسلام الوسطيّ ووجهَ العقل السنّيّ الرصين بدأت في العقود الأخيرة رياح غريبة تهبُّ من نجدٍ، محمّلةً بغبار فكرٍ جديدٍ يزعم أنه «توحيدٌ خالص»، لكنه في أعماقه إنكارٌ لما توارثته الأمة من محبةٍ و توسُّلٍ و تجلٍّ و روحانية.
تلك هي رياح الوهابية، الفكر الذي أراد أن يجعل من العقل ميزانًا للعقيدة وحده، ومن التجرّد من التوسّط طريقًا إلى الله، ثم مدّ جذوره إلى مصرَ الطيبة، حتى بلغت أطرافُه صحن الأزهر ذاته.
لم يكن الأزهر الشريف عبر قرون امتدت لألف عام مجردَ جامعةٍ علمية، بل كان قلبَ الأمة النابض بالإيمان المعتدل والعقل المتزن، حارسَ الموروث الروحي، وصوتَ الإسلام الوسطي الذي جمع بين العقل والنقل، وبين الشريعة والحقيقة.
غير أنّ القرن العشرين حمل رياحًا جديدة، بعضها نقيّ، وبعضها مسموم، تتسلّل كالدخان إلى قاعات الدرس ومجالس الفكر. ومن هنا بدأ الحديث عن تسرّب الفكر الوهابي إلى بعض أروقة الأزهر، ذلك الفكر الذي نشأ في بيئة تختلف تمامًا عن روح مصر الأزهرية المتصوفة العميقة ،،
فكيف تسرّب هذا الفكر إلى أروقة الأزهر؟
وكيف استطاع أن يجد لنفسه صدى بين طلابٍ وعمائمَ طالما حملت راية الأشاعرة والماتريدية وأهل التصوف والعلم؟ذلك ما نحاول أن نقرؤه في هذه الصفحات، قراءةً تجمع بين التاريخ والفكر والاجتماع والثقافة، لا هجاءً ولا مجاملة، بل تحليلًا يكشف المسار ويضيء الطريق.
أولاً: من نجد إلى القاهرة جذور التاريخ و مسار الدعوة :
بدأت البذور الأولى عقب التحالف التاريخي بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود (1744م)، الذي أسّس لما سُمّي بالدعوة “الإصلاحية”، بينما حملت في طياتها نزعة تكفيرية تُقصي المخالف وتُحجّر على الذوق والوجدان.
وفي القرن التاسع عشر، حين توسعت العلاقات المصرية-الحجازية في ظل حكم محمد علي باشا وأبنائه، بدأت بوادر احتكاك بين المدرستين: المدرسة المصرية الأشعرية الصوفية، والمدرسة النجدية السلفية.
غير أن الاختراق الفعلي لم يبدأ إلا مع منتصف القرن العشرين، حين فُتحت أبواب البعثات التعليمية بين القاهرة والرياض، وتدفّق المال النفطي بعد اكتشاف البترول، فأنشئت مؤسسات ومراكز أبحاث برعاية الفكر السلفي النجدي داخل مصر، بعضها بغطاء خيري أو تعليمي.
في منتصف القرن الثامن عشر، خرج محمد بن عبد الوهاب من صحراء نجد داعيًا إلى تصحيح العقيدة كما يرى وتنقية الدين من مظاهر الشرك والبدع.
لكن دعوته، التي لبست ثوب الإصلاح، سرعان ما تحوّلت إلى مشروع سياسيّ بعد تحالفه مع آل سعود، فأُريقت بسببها دماء، وهُدّمت قبور، وحُوربت طرق التصوف وأئمة الأشاعرة.
ومع قيام الدولة السعودية الثالثة، صار للفكر الوهابي سندٌ من المال والنفط ومؤسساتٍ دعويةٍ وتعليميةٍ تحمل رسالته إلى كل أقطار الإسلام.
ومن هنا بدأت البذور الأولى للفكر الوهابي تدخل في ثنايا المجتمع المصري عبر الجمعيات الدعوية، وأبرزها جمعية أنصار السنة المحمدية (1926م)، التي اتخذت من محاربة البدع والتصوف منهجًا، ومن تأويل التوحيد على الطريقة النجدية شعارًا .
أمّا مصر، التي كانت عبر تاريخها حاضنةً للمذاهب الأربعة، وموئلًا للروحانية والتصوف والعلم، فقد بقيت بمنأى عن هذا التيار زمنًا طويلاً، حتى بدأ الاختراق مع مطلع القرن العشرين، خصوصًا بعد أن أُرسلت بعثات طلابية إلى الحجاز، وعاد منها بعضهم يحمل أفكارًا جديدة تتناقض مع ما درسوه في الأزهر.
ثانيًا: المناخ الاجتماعي و السياسي لمرحلة الاختراق :
لم يكن الفكر يتوغّل إلا حين تُتاح له التربة القابلةوفي مصر، بعد منتصف القرن العشرين، تبدّلت الأحوال:
انهزمت الأمة في حرب 1967، فاهتزّت الثقة بالنخب الفكرية والعلمية، وارتفعت الحاجة إلى خطاب دينيّ جديدٍ أكثر «صرامة» وفي ظل الانفتاح الاقتصاديّ في عهد السادات، تدفّقت الأموال الخليجية، ومعها حملات تمويلٍ للمساجد والمراكز الدعوية والمدارس القرآنية وفي تلك الموجة، وُجِدت مصاحف وكتبٌ تُوزَّع بالملايين مجانًا، أكثرها من مطابع المملكة، تحمل الفكر الوهابي وتقدّم له في ثوب «السنة».
هكذا دخلت الكتب الوهابية إلى مكتبات المعاهد الأزهرية، وأُوفد كثير من طلاب الأزهر إلى السعودية في بعثاتٍ دراسيةٍ، فعادوا وقد اختلط في عقولهم «الفقه التقليدي الأزهري» بـ«الطرح السلفي النجدي».
ومن هنا بدأت ظاهرة غريبة:
طلّاب في الأزهر يهاجمون الأشاعرة، وأساتذة ينتقدون التصوف، ومنابر ترفض الاحتفال بآل البيت، كل ذلك باسم «التوحيد».
ثالثًا: المسارات الفكرية و المؤسسية للتوغّل :
بعد الطفرة النفطية في السبعينات، تدفّق الدعم المالي السعودي إلى أوساط كثيرة في العالم الإسلامي، في مشاريع الدعوة والطباعة والتعليم.
وكان للأزهر نصيب من ذلك التمويل أحيانًا بحسن نية، وأحيانًا بغير وعي إذ تم إنشاء منح وبعثات دراسية إلى جامعات سعودية، مثل جامعة الإمام محمد بن سعود والجامعة الإسلامية بالمدينة.
وهكذا عاد بعض خريجي تلك الجامعات إلى الأزهر يحملون في عقولهم فكرًا مغايرًا للنسق الأزهري التقليدي: فكرٌ يعلي ظاهر النص على بواطن المعنى، ويجفّف منابع الروح لصالح جدلٍ لفظيٍّ جامد.
قال أحد علماء الأزهر الكبار في الثمانينات:
“دخلت علينا الوهابية من باب المنح لا من باب المنهج.” و كانت عبارة تختصر التحوّل كله لم يكن التوغّل الوهابي في الأزهر صدامًا مباشرًا، بل تسلّلاً صامتًا عبر بوّابات رئيسة :
1: التحولات السياسية :
لا يمكن فصل الفكر عن السياسة؛ فمع تراجع المشروع القومي بعد نكسة 1967م، وصعود تيارات الإسلام السياسي، وجدت الدعوة السلفية فرصة ذهبية للتمدّد.
وفي تلك الفترة، هاجر كثير من علماء الأزهر إلى الخليج، فعاد بعضهم متأثرًا بروح الفكر النجدي، يكرر عباراته وأسلوبه، وربما دون أن يشعر.
كما استغلت بعض الجماعات هذه الثغرات لتمرير أدبياتها تحت شعار “نقاء العقيدة” و“العودة إلى التوحيد”، بينما كانت في حقيقتها دعوة لطمس التعدد المذهبي والروحي الذي هو جوهر هوية الأزهر منذ نشأته.
2. البوّابة التعليمية:
من خلال المناهج الدراسية التي تسلّلت إليها بعض الكتب ذات الاتجاه السلفي، خصوصًا في العقيدة والتفسير، مع تجاهل متزايد للمتون الأشعرية الكلاسيكية.
كما بدأت بعض الرسائل الجامعية في العقيدة أو الحديث تتبنّى مراجع وهابية تحت عناوين «منهج السلف الصالح».
3. البوّابة الدعوية و الإعلامية :
مع انتشار الفضائيات الدينية في التسعينيات، احتل دعاة الفكر الوهابي بعضهم من خريجي الأزهر مساحةً واسعة في الخطاب العام، مما أحدث تشويشًا في الذوق الديني الأزهري.
وبدأت العبارات مثل: «الأشاعرة ليسوا من أهل السنة»، «التوسّل بدعة»، «المولد شرك» تُقال من ألسنة عمائم أزهرية!
4. البوّابة المالية و الاجتماعية :
حيث اعتمدت بعض الجمعيات الخيرية الممولة خليجيًّا على استقطاب شباب الأزهر في أعمالٍ تطوعيةٍ ودوراتٍ مجانيةٍ، لتُعيد تشكيل وعيهم الديني على الطريقة النجدية.
رابعًا: آثار هذا التوغّل على الفكر الأزهري و المجتمع المصري :
إنّ أثر الوهابية في الأزهر لم يكن انقلابًا كاملًا، لكنه أحدث تشققاتٍ في الجدار الفكري للمؤسسة.
صار ثمة تيارٌ «نصّيٌّ جامد» في مقابل التيار «التحقيقيّ الأشعري»، وتراجع الحسّ الروحيّ الصوفيّ الذي كان يُشكّل العمود الفقري في التربية الأزهرية.
أما على المستوى الاجتماعي :
فقد تغيّر المزاج الديني للمصريين اختفى ذكر الموالد شيئًا فشيئًا، وتراجع الاهتمام بالأضرحة، وبدأت «الفتاوى المستوردة» تغزو المجالس، حتى غابت النغمة المصرية الوسطية التي كانت تُميز التدين الأزهري.
ولم يقف الأمر عند الفكر، بل تجاوز إلى الهوية البصرية:
النقاب بدل الخمار المصري، اللحية السلفية بدل اللحى الأزهرية الوقورة، العباءة القصيرة بدل الجبّة الأزهرية.
حتى بدا وكأن ملامح القاهرة الدينية تنقلب شيئًا فشيئًا لتُشبه مدن الصحراء.
خامسًا: مقاومة الأزهر و عودة الوعي :
غير أنّ للأزهر جذورًا ضاربة في التاريخ، لا تُقلعها ريح عابرة.
فقد أدرك كبار علمائه خطورة هذا التسرّب، فبدأت حركة تصحيحٍ داخلية بقيادة عددٍ من الأئمة الكبار، منهم الشيخ محمد زكي الدين إبراهيم، والشيخ عبد الله الشرقاوي في دراساته، ومن بعدهم علماء الحاضر أمثال الدكتور علي جمعة وأسامة الأزهري والحبيب الجفري ممن أعادوا التذكير بأن:الأزهر هو حصن الأشعرية، ومهد الصوفية، ومأرز الوسطية.
كما صدر عدد من الدراسات والندوات التي تُحذّر من «تسليع الفكر الديني» واستيراد فتاوى من بيئاتٍ مغايرةٍ للمجتمع المصري.
وفي السنوات الأخيرة، أعاد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب تأكيد هوية الأزهر في خطبه ولقاءاته، فقال:
“إنّ الفكر الذي يُقصي التصوف ويُكفّر الأشاعرة ليس من الإسلام، بل هو عدوانٌ على تراث الأمة وتاريخها”.
سادسًا: قراءة في العمق لماذا نجحت الوهابية في الاختراق؟
غياب الوعي التاريخي و التصوفي :
الفكر الوهابي لا يعيش في بيئة تعرف أسرار الذوق الصوفي، ولا يتنفس في مناخ عرفاني يرى الإيمان تجربةً حية لا جدلًا لفظيًا.
لذلك، حين بدأت بعض الأصوات تتهم التصوف بالشرك والبدعة داخل محيط الأزهر، كان ذلك نذيرًا بانحرافٍ في المزاج العلمي والروحي، لأن التصوف في مصر كما في منهج الجنيد والشاذلي والرفاعي هو روح الدين لا زينته.
إن فقدان “الوجدان الأزهري” القائم على التسامح والعرفان، جعل بعض طلاب الأزهر يتعاملون مع الدين كمعادلات جامدة لا إشراقات حيّة، فاختل التوازن بين الفقه والروح، وبين العلم والنور.
لأنها قدّمت خطابًا بسيطًا وحادًا في زمن الفوضى.
حين تعقد الأمور، وتضيع المعايير، يبحث الناس عن «دينٍ واضحٍ سريع»، فجاءت الوهابية بعباراتها القاطعة: هذا حلال، هذا حرام، هذا شرك، هذا بدعة.
في المقابل، كان خطاب الأزهر عقليًّا رصينًا لا يسهل على العامة، مما جعل الخطاب الوهابيّ أكثر جذبًا للعامة في زمن الإعلام السريع.
كما أنّ التمويل الضخم مكّنها من السيطرة على أدوات الخطاب، بينما بقي الأزهر محكومًا بقيود الدولة، مما حدّ من حركته.
سابعًا: نحو استعادة الوعي :
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، استيقظ الوعي الأزهري من جديد، وبدأت جهود المراجعة الفكرية والتصحيح الروحي، بقيادة علماء كبار مثل الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبد الحليم محمود، ثم تلاهم جيل جديد أعاد للأزهر هيبته الوسطية.
فأُعيد الاعتبار للتصوف السني، وأُكد على ضرورة العودة إلى منهج الأشاعرة والماتريدية، ورفض التكفير والتشدد، واحتضان الحوار مع المخالفين.
لن يتخلّص الأزهر من آثار الوهابية بمجرد الشعارات، بل بالعودة إلى روح المنهج الأزهريّ الأصيل ..
التحقيق قبل التكفير، الجمع قبل القطيعة، المحبة قبل الحكم، والعقل قبل النقل الجامد.
يجب أن يُربَّى الطالب الأزهريّ على أن الخلاف رحمة، وأن التوسّل والمولد والذكر ليست من الشرك، بل من شعائر المحبة لله ورسوله ﷺ.
ولذلك، فإنّ الإصلاح الحقيقيّ لا يكون بمحاربة الوهابية خارج الأزهر، بل بتحصين أبنائه من الداخل بالفكر الأزهريّ المحقّق، كما كان عليه الأسلاف من أمثال:
الشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والشيخ شلتوت، والشيخ المراغي.
ومع ذلك، تبقى البيئة الفكرية الأزهرية قادرة على الامتصاص والمراجعة، لأن جذورها ليست مذهبيةً ضيقة، بل جامعةٌ لمذاهب الأمة الأربعة ومناهجها الكبرى في الكلام والتصوف و الفقه .
خاتمة :
إن توغل الفكر الوهابي في بعض أروقة الأزهر لم يكن غزوًا عقائديًا بقدر ما كان تسللًا ثقافيًا عبر المال والجهل والفراغ الروحي.
لكنّ الأزهر بحكم رسوخه وذاكرته التاريخية ظلّ عصيًا على الذوبان، وإن تأثر بعض أفراده، فإن البحر لا يغيّره موجٌ عابر.
يبقى الأزهر منارةَ العالم الإسلامي، لا شرقيةً ولا غربيةً، بل نورًا وسَطًا بين طرفَي الإفراط والتفريط، ما دام في الأمة من يُدافع عن روح الإسلام الرحيمة الجامعة.
لقد حاولت الوهابية أن تُحوِّل نيلَ مصر إلى رمال نجد، لكنها وجدت في عمق النهر تيارًا لا يُغلب.
فالأزهر ليس مدرسةً في جدار، بل ذاكرةُ أمةٍ ونبضُ تاريخٍ.
قد تهبُّ الرياح، و تُحدث اضطرابًا في السطح، لكنها لا تغيّر اتجاه التيار.
فالأزهر باقٍ ما بقي الحق، ما بقي التصوف المحقق، والعقل المتزن، والإيمان الذي يجمع ولا يفرّق.
> ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾
(سورة الرعد: 17)
و الحمد لله رب العالمين