حين يَبكي الظالم… هل يُواسى؟
21 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم المفكر الإسلامى د: أحمد سليمان أبو شعيشع
الأستاذ بجامعة كفر الشيخ – وخادم الساحة المنهلية
في زمنٍ اختلطت فيه المفاهيم، وصار الناس يهرعون بالعطف إلى كل من بكى، ولو كان ظالمًا جائرًا أو فاسدًا مفسدًا، وجب أن نقف وقفة بصيرة، نُحاكم فيها العاطفة بميزان الشريعة، ونُعرض على القلب سؤالًا:
هل تُواسى يدٌ لطختها المظالم، أم يُذكَّر صاحبها بعدل الله؟
فقد علَّمنا الله أن الرحمة لا تكون على حساب الحق، وأن البكاء لا يمحو جرمًا ما لم يُتب منه. قال تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (1)، فمجرد الميل القلبي للظالم قد يورث نارًا تمسّ من رقّ قلبه له. فكيف بمَن يواسيه ويُبرر له فعله ويُزين له طريقه؟
الرحمة في موضعها عبادة، لكنها إن وُضعت في غير موضعها صارت جناية. فمن رحم من استحق العقوبة، ظلم من ظلمه ذاك الظالم، وخالف أمر الله في إحقاق الحق. قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2)، ولم يقل عن الذين ظلموا.
الحق لا يعرف العواطف حين يُقام، لأن العاطفة إذا غلبت البصيرة أفسدت العدل. تأمل قول النبي ﷺ: “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (3). ما أعظم هذا الموقف الذي يُغلق باب المحاباة، ليُقيم ميزان الله في الأرض!
وما أشد قسوة الزمان حين ترى من يواسي ظالمًا نزل به حكم الله، وينسى من أبكاهم ظلمه! أليست تلك المواساة طعنة في قلب المظلوم؟ أليس فيها استخفافٌ بدموع من أُهين أو حُرم أو سُلب حقه؟
إن البصيرة تهتف: لا تُواسِ ظالمًا في عقوبته، ولكن خُذ بيده إلى التوبة إن أخلص النية. فذاك طريق الله: عدلٌ قبل الرحمة، وإنابةٌ قبل مغفرة. فمن بكى تحت العقوبة، ولم يتُب من الذنب، فبكاؤه بكاءُ ألمٍ لا بكاءُ ندمٍ.
قال أحد الحكماء: “من رقّ للظالم حين يُعاقب، فقد أسخط ربًّا رأى ظلمه وسكت عنه صبرًا حتى جاء ميقاته” (4). والناس يخلطون بين اللين في الدعوة، والممالأة في الباطل. فالأول رحمة، والثاني ضعفٌ وفساد في الفهم.
من شهد ظالمًا وقد نزل به عدل الله، فليحمد الله على أن جعله من الشاهدين لا من المذوقين، وليتعظ لا ليعطف. لأن الله لا يُقيم العقوبة عبثًا، ولا يُسلّط الجزاء إلا بعد الإنذار والإنعام والابتلاء. فمن استحق العقوبة فقد استنفد كل بابٍ من الرحمة وأغلقه بيده.
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (5).
فإذا شاء أن يُريهم طرفًا من عقابه في الدنيا، فلا تجزع لرؤيته، بل خُذ منه عبرةً تُنقّي قلبك، ولا تجعل دموع الظالم تُنسيك دموع من ظلمه.
واعلم أن الله لا يظلم أحدًا، وأن ما يقع من بلاءٍ أو خزيٍ أو فضيحةٍ ليس إلا عدلًا إلهيًا منصفًا، ربما أُخّر عن حينه لحكمة، ثم جاء موعده.
فإن رأيت فاسدًا يذوق مرارة انكشافه، فاحمد الله على ستره عليك، ولا تشمت، لكن لا تُواسِ. لأن المواساة في موضع القصاص تجرّئ أهل الفساد على المعاصي، وتُربك الناس عن رؤية عدل الله.
أما المظلوم، فواجبك أن تواسيه حتى بعد أن يرفع الله عنه البلاء، لأن الله يُحب من يرحم المساكين ويواسي المقهورين. وأما الظالم، فلا يواسى إلا إذا أظهر توبة صادقة، وأقرّ بذنبه، وعاد إلى الحق. قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (6).
في تلك اللحظة فقط، تكون المواساة رحمة، لأنها تداوي جرح التوبة لا جرح الكبرياء. وما عداها، فمواساة الظالم هي إعانة له على الاستمرار في الغيّ، وإن ظنّها الناس طيبة قلب.
القلوب الرحيمة تُوزن عند الله بقدر حكمتها، لا بقدر دموعها. لذلك كانت الحكمة تاجًا على رأس العارفين، الذين يعلمون أن لكل مقامٍ حاله، ولكل قلبٍ دواءه. فدواء المظلوم المسح على رأسه، ودواء الظالم نصحه حتى يبكي بين يدي الله لا بين الناس.
وتأمل في قصص الأنبياء كيف لم يُواسِ أحدٌ من أولياء الله طاغيةً حين نزل به العقاب. لما غرق فرعون، لم يُمدّ له موسى يدًا لينقذه، لأن الله قال له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (7).
فبكاء فرعون لم يُبدّل من سنّة الله في المجرمين، لأن دموع الخوف من الموت ليست كدموع الخوف من الله.
وفي هذا درسٌ عظيم: أنّ الله لا ينظر إلى الدموع، بل إلى القلوب التي خلفها. فإن بكت خوفًا من العقوبة، فلا وزن لها. وإن بكت حياءً من الله، فهي دموع تُطفئ بحار الذنوب.
ليست القسوة في ترك مواساة الظالم، بل القسوة في خداعه باللين حتى يطمئن إلى الباطل. لذلك قال بعض السلف: “من رقّ لظالمٍ فقد ظلم المظلوم مرتين” (8). لأن قلبه خان العدل، ولسانه زيّن الباطل.
ما أحوجنا اليوم إلى من يُذكّر الناس بميزان الله، لا بمشاعرهم. فالمشاعر المتساهلة تصنع أمة رخوة، لا تفرّق بين الحق والباطل. أما العدل فيصنع أمة تعرف متى تُواسِي، ومتى تترك المواساة لله وحده.
فإذا نزل القضاء بظالم، فقل: الحمد لله الذي أرانا عدله في الدنيا قبل الآخرة، ثم استعذ بالله أن تكون يومًا مكانه.
ولا تفرح ولا تشمت، بل اتعظ واعتدل، لأنك لا تدري كم من المظالم في رقبتك تنتظر ميعادها.
قال الإمام عليّ رضي الله عنه: “إذا رأيت ربك يُتابع على الظالم النعم، فاحذره، فإن أخذه أليم شديد” (9). فليكن قلبك في موضع العدل لا في موضع الهوى، فإن الله لا يرضى عن قلبٍ رضي بالظلم، ولو بدمعة عطفٍ زائفة.
ومن فقه القلب أن يعلم أن الرحمة لا تُعطى إلا لمن عرف مقام التوبة، وأن العزاء الحقيقي يكون لمن خضع لله وندم، لا لمن جادل في جرمه.
إن الذين يواسون الظالمين في العقوبة يشبهون من يزرع الورد في أرضٍ لم تُطهّر من الحجارة، فلا تنبت إلا شوكًا يؤذيهم ويؤذي غيرهم. أما من يُنكر الباطل ويُقيم العدل في موضعه، فهو الذي يُهيّئ التربة لنبت الرحمة الصادقة.
هكذا يتعلم القلب أن الحب لله، والكره لله، والرحمة بميزان الله، لا بالعاطفة العمياء. فالذي يرحم في غير موضع الرحمة، كمن يضع الماء على النار فيُطفئ نورها قبل أن تنضج الحكمة.
فاحذر أن تكون ممّن يُخاصم عدل الله بحجة اللين، أو يُواسي من أبكاه الله بحكمته، لأنك بذلك تُخالف مراد ربك الذي قال: {لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} (10).
واعلم أن الله إذا أراد بعبدٍ خيرًا، جعل من عقوبته توبة، ومن خزيه طهارة، ومن انكساره بدايةً جديدةً نحو النور. فليست العقوبة دائمًا هلاكًا، بل قد تكون طريقًا للرجوع. لكن المواساة قبل التوبة تُغلق هذا الباب، وتُضعف أثر الندم.
فلنكن عقلاء في رحمتنا، أمناء في عواطفنا، ولا نُدخل أنفسنا بين العدل والعدالة الإلهية. فربّ بكاءٍ يراه الناس مظلومًا، وهو عند الله بكاءُ ظالمٍ نُزع من ملكه بقدرٍ عادلٍ لا يخطئ.—
المراجع
(1) تفسير الطبري، جـ 11، صـ 234.
(2) تفسير ابن كثير، جـ 4، صـ 108.
(3) صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع.
(4) الحكمة المنقولة في “إحياء علوم الدين”، للإمام الغزالي، جـ 3، صـ 77.
(5) سورة إبراهيم، الآية 42.
(6) سورة البقرة، الآية 160.
(7) سورة يونس، الآية 91.
(8) مدارج السالكين، ابن القيم، جـ 2، صـ 189.
(9) نهج البلاغة، خطبة رقم 176.
(10) سورة الروم، الآية 41.