نور القرب في حب الرب
21 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

الرحلة الثالثة من سلسلة ( رحلة القلوب إلى الله )
بقلم الدكتورة : إيمان إبراهيم عبد العظيم
مدرس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر – واعظة بوزارة الأوقاف
في زحمة الحياة و زخمها وتقلّب الأيام ومرورها ، يظل في القلب حنينٌ خفيّ لا يهدأ، حنينٌ يأخذنا إلى السكون، إلى النور، إلى ربٍّ يطمئن إليه كل من أرهقته مشقة الدنيا. تلك هي رحلة القلوب إلى الله، حيث يبدأ الطريق من ظلمة الغفلة وينتهي بنور القرب في حب الرب.
حين يلتفت العبد إلى خالقه بعد طول بُعدٍ وتقصير، يشعر حينها أن باب السماء لم يُغلق قط، وأن الله ينتظره بواسع رحمته، كفرحة الأم بلقاء ولدها، كما قال في كتابه الكريم:
> “قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.”
فكل خطوةٍ نحو الله تُبدد ظلمةً، وكل دمعةٍ في جوف الليل تغسل ذنوبًا، وكل دعاءٍ صادق يُنبت في القلب يقينًا بأن الله أقرب إلينا مما نظن أقرب إلينا من حبل الوريد.
وفي قرب الله سكينةٌ لا توصف، يُبدّل فيها الخوف أمنًا، والحزن رضا، والضياع هداية. فحب الله ليس كلماتٍ تُقال، بل هو نبضٌ يسكن القلب فيمنعه من المعصية، ويقوده إلى الطاعة حبًّا لا خوفًا.
حين يحب العبد ربّه، يرى في كل بلاء لطفًا، وفي كل تأخير حكمة، ويكأن المنع حينها يكون قمة المنح و قمة العطاء ، و يرى في كل أمرٍ قضاءً رحيمًا.
إن نور القرب في حب الرب يُضيء ظلمات العمر، ويجعل القلب عامرًا باليقين، مطمئنًا مهما تبدلت الأحوال. فالسعادة الحقيقية لا تُشترى، بل تُمنح من السماء لمن صدق حبّه وسعى بقلبه.
فيا من تاهت بك الطرق، عُد إلى الله، فالقرب منه حياة، وحبه نور لا ينطفئ، وسرّ سعادةٍ لا تزول.
> “وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ.”
فليست كل الرحلات تُقطع بالأقدام، فبعضها تُسافر فيها القلوب قبل الأجساد، وتُبحر فيها الأرواح في بحرٍ من الشوق واليقين، باحثةً عن السكن والأمان في قرب الله، إنّها رحلة القلوب إلى الله، أسمى رحلةٍ يمكن لإنسان أن يعيشها، وأطهر طريقٍ يسلكه المؤمن نحو النور والطمأنينة.
في بداية هذه الرحلة، يشعر القلب بثقل الدنيا وضجيجها، فيناديه النداء الخفي: “ارجع إلى رب العالمين، تجد الراحة التي ضاعت منك و اليقين.”
فيتوضأ القلب من أدران الغفلة، ويبدأ السير بخطواتٍ من توبةٍ صادقة ودموعٍ نقية، يطرق بها باب الرحمة، راجيًا رحمة ربه الغفور أن يُفتح له الطريق.
ومع كل سجدةٍ يطيل فيها العبد خضوعه، ومع كل ذكرٍ يردده بصدقٍ، يُنقّى القلب من شوائب الهوى، وتُضاء جوانبه بنور القرب.
فالقلب الذي كان مضطربًا بين الخوف والرجاء، يجد نفسه وقد اطمأن بقول الله تعالى:
> “أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.”
إنه الاطمئنان الحقيقي، لا يمنحه مالٌ ولا جاه، بل يمنحه الله لمن أقبل إليه بقلبٍ سليم.
وعندما يتذوّق العبد حلاوة القرب، يدرك أن كل تعبٍ في الطريق لم يكن إلا بابًا إلى الراحة، وأن كل دمعةٍ كانت مفتاحًا لنورٍ جديد.
فالقلوب لا تُشفى إلا بربّها، ولا تستقيم إلا في ظلّ طاعته.
هي رحلة لا نهاية لها، لأن القرب من الله لا يُقاس بخطوات، بل بصدق النية وصفاء السريرة، وبمقدار الحب الذي يملأ القلب له وحده.
وفي نهاية المطاف، يدرك السائر أن الوصول إلى الله ليس مكانًا يُبلَغ، بل حالٌ يُعاش، وسكينةٌ تغمر الروح حين يرضى الله عنها.
فما أجمل أن يكون القلب مهاجرًا إليه دائمًا، لا يرضى ببديلٍ عن حضرته، ولا يطمئن إلا بذكره.
اللهم اجعل رحلتنا إليك عامرةً بالإخلاص، وخاتمتنا نورًا ورضوانًا وجنة عرضها السماوات والأرض.