دواءُ القلوب وترياقُ الكُرُوب


بقلم الدكتور : اسلام عوض
مدير تحرير بجريدة الاهرام المصرية

قصص الأنبياء : في كتاب الله ليست مجرد حكايات تُروَى، بل هي منهج حياة ودائرة إمداد إيمانية، يُثَبِّتُ الله بها قلوب العباد، ويُعَلِّمُهُمْ كيف يواجهون أعتى المحن.

ومن بين هذه القصص التي تحمل نورًا في قلب الشدائد، تبرز قصة نبي الله يونس بن مَتَّى عليه السلام، الذي اشتهر بـ “ذي النون” أي صاحب الحوت.

نداء سيدنا يونس الخالد الذي أطلقه من بطن الحوت ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو خلاصة التوحيد والتوبة، وهو الوعد الإلهي للنجاة الذي شَمِلَ كل مؤمن. فما هو سر هذا الدعاء؟ وكيف يمكن أن يكون مفتاح فرج لكل مكروب؟

أرسل الله يونس إلى قومه، فدعاهم إلى الإيمان فتمردوا. خرج يونس عليه السلام مغاضبًا قبل أن يُؤذَنَ له، فاستقلَّ سفينة في البحر، وما إن توغلت السفينة في البحر حتى هاج البحر وماج، واضطربت السفينة وركابها، وكانت هناك عادة عند ركاب البحر في ذلك الوقت أن اضطراب السفينة الشديد رغم سلامتها يدل على أن بين الركاب شخصًا مُذنباً أو آبقاً (أي هارباً)؛ ولذلك، قرروا إجراء قرعة (اقتراع) بينهم.

والقصد من القرعة: هو تخفيف حمولة السفينة بإلقاء شخص واحد منها؛ لإنقاذ الباقين، ولتحديد من هو “الراكب المُذنب” الذي هو سبب البلاء، وقال تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات: 14، “فَسَاهَمَ”: أي أجرى القرعة معهم، “فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ”: أي فكان من المغلوبين في القرعة، أي وقعت عليه القرعة.

ولكن قد يسأل سائل ويقول: لماذا ألقوا بيونس بالتحديد؟

ألقوا بيونس لأنه هو من خرج سهمه (وقعت عليه القرعة)؛ وتذكر روايات المفسرين (وهي غير مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنها مشهورة في التفسير) أنهم كرروا القرعة ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تقع على يونس عليه السلام، على الرغم من معرفتهم به ورغبتهم في عدم إلقائه لصلاحه الظاهر، ولكن عندما تأكدوا أن الأمر إرادة إلهية، وأن القرعة لا تخطئ، لم يجدوا بداً من إلقائه، أو ألقى هو بنفسه، بعد أن أدرك أنه المعني بهذا البلاء الإلهي لتركه قومه دون إذن.

وهناك، في تلك الظلمات المتراكمة:
ظُلْمَةُ الليل، وظُلْمَةُ البحر، وظُلْمَةُ بطن الحوت، والندم على تركه قومه دون إذن من الله تعالى، انطلق نداءٌ يونس الذي ما خرج من قلب مخلص إلا كُشِفَ غَمُّه: ﴿لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 87).

وكان هذا النداء بمثابة الوديعة الصالحة التي ادخرها يونس في رخائه، كما قال تعالى في موضع آخر: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (الصافات: 143-144).

أركان الإجابة الثلاثة
إن هذا الدعاء يشتمل على المنهج الكامل لإجابة الدعاء وتفريج الكروب، فهو يجمع بين ثلاثة أركان أساسية:

اعتراف بالألوهية والوحدانية
﴿أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ﴾. هذا هو قمة التوحيد. إقرار بأن الله وحده هو المستحق للعبادة، وهو وحده القادر على كشف الضر، فلا ملجأ ولا منجى إلا إليه. إنها إشارة إلى أن قوة التوحيد هي السلاح الأول للمؤمن في زمن الشدة.

تنزيه لله عن كل نقص وعيب
﴿سُبْحَانَكَ﴾. هذا هو الأدب الرفيع في الدعاء، إعلان تنزيه الله عز وجل تنزيهًا مطلقًا عن الظلم أو الجور، وفي ذلك حُسْنُ ظَنٍّ بالله، وإقرار بأن ما نزل بالعبد فبسبب تقصيره هو وذنوبه.

اعتراف بالذنب والتقصير
﴿إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. هذا الاعتراف بالتقصير والذنوب هو مفتاح التوبة الصادقة والرجوع إلى الله. فالظلم هنا هو ظلم للنفس (بخروج يونس قبل الإذن الرباني)، وهذا الاعتراف يورث الذل والانكسار الذي يفتح أبواب رحمة الله.

وعد النجاة لكل مؤمن
لما جَمَعَ يونس عليه السلام بين هذه الأركان الثلاثة (التوحيد والتنزيه والتوبة)، جاءت الإجابة الفورية من رب العالمين: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾.
والأعظم من ذلك، أن الله لم يجعل النجاة خاصة بنبيه يونس فحسب، بل جَعَلَها قانونًا عامًا وسُنَّةً إلهية لكل من يسلك هذا الطريق الإيماني، حيث قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأنبياء: 88).

وأكد النبي صلى الله عليه وسلم فضل هذا الدعاء وعمومه، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ، فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له» (رواه الترمذي وصححه الألباني). وهذا دليل على أن فضله لا يقتصر على البلاء الكبير، بل يشمل قضاء جميع الحوائج وتفريج جميع الكروب.

الخلاصة
إن دعاء ذي النون ليس مجرد كلمات تُقال باللسان، بل هو دواءٌ للقلوب وترياقٌ للكُرَبِ. هو درسٌ عمليٌّ في التوكل على الله، وحُسْنِ الظن به، والاعتراف الصادق بالتقصير. فكما أنجى الله يونس عليه السلام، يُنجي كل مؤمن تضرع إليه واستحضر معاني هذا الدعاء بقلبه ولسانه.

فيا كل من ألمَّ به كرب، أو ضاق صدره بالهم والغم، اجعل هذا الدعاء شعارًا ودِثارًا، موقنًا بوعد الله في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾. إن الصدق في التوبة، واليقين في التوحيد، هو السلاح الذي لا يخيب في أصعب الظلمات.