خطبة بعنوان ( الإسلام و المحافظة على البيئة ) للدكتور محمد جاد قحيف
20 أكتوبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( الإسلام و المحافظة على البيئة )
للدكتور : محمد جاد قحيف
الحمد لله مغيث المستغيثين، ومُسْبِل النِّعَمِ على خلقه أجمعين، عظُم حِلْمُه فستر، وبسط يده بالعطاء فكثَر ، نعمه تترى، وفضله لا يُحصَى، إليه وحده تُرفَع الشكوى.
وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، مُدَبِّرِ الأَمْرِ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ وَاخْتَارَهُ لِيَكُونَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَهُ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَحَثَّهُ عَلَى الاعتِنَاءِ بِبِيئَتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، المَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، شَمَلَتْ رَحْمَتُهُ جَمِيعَ المَخْلُوقَاتِ، حَتَّى الحَيَوانَ وَالنَّبَاتَ، -صلى الله عليه وسلم-وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد :
فالإسلام دين الإيمان والقيم الإنسانية الرفيعة ، وفي مقدمتها المحافظة على البيئة، وعدم تلويث محيطها الحسي والمعنوي بأي آثار ضارة، والمحافظة على البيئة من شعب الإيمان ، والإيمان سبب لمغفرة الذنوب وطريق العبد الصالح إلى الجنة ..
قال -صلى الله عليه وسلم-: “الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ”(متفق عليه)..
وقد قال أحد الزوار لبلاد العرب والمسلمين لما أغلب بيوت العرب والمسلمين نظيفة وشوارعهم ليست نظيفة ؟!.
قيل لأنهم يعتقدون أن بيوتهم ملكا لهم وأوطانهم ليست ملكا لهم!!! .
العنصر الأول :
..مفهوم البيئة وعناصرها..
والبيئة هي المكان الذي يعيش فيه الإنسان، البيوت والأفنية والشوارع وكذا ما يشمل مخلوقات الله -تعالى- الطبيعية من جبال وسهول ورمال وبحار وأنهار وما فيها من نبات وشجر وحيوانات وغيرها، أو ما يحدثه البشر من تحسينات، يتأثر بها الإنسان ويؤثر فيها..
وبيئتنا هي أرضنا التي نمشي عليها، وهواؤنا الذي نستنشقه، ومياهنا التي نشربها ونستخدمها ونتمتع بها، وطرقاتنا التي نسلكها ونمضي عليها، وأشجارنا التي نستظل بها ونطعم ثمارها، ونبتاتنا وزروعنا التي نزرعها، وحيواناتنا التي نربيها، وطعامنا الذي نأكله..
وكل ما يحيط بنا في البر والبحر والجو سخر لنا وخلق من أجلنا …
قال-سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ* وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم:32، 34] ..
ومن هنا فقد استخْلف الله الإنسان في الأرض ليعمرها، ويحافظ عليها ويتعبد لله -تعالى- فوقها يقول -سبحانه-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:30] قال الشيخ السعدي -رحمه الله- في معنى قوله: “(إِنِّي أَعْلَمُ) من هذا الخليفة (مَا لا تَعْلَمُونَ)؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة، أضعاف أَضْعَافَ ما في ضِمْنِ ذلك من الشر”.
والخلافة في الأرض تقتضي تمام المسؤولية ، والتصرف فيها تصرف الأمين بأن يستثمر خيراتِها، ويحافظ عليها، يتعامل معها برفق وأسلوب رشيد، ولم يجعل الله الإنسان مالكاً لها يتصرف فيها بأنانية، ويدمرها من أجل مصالحه الذاتية المؤقتة، أو لمجرد العبث الخالي من المسؤولية، بل ينتفع بها الحي الآن ، ومن بعدهم الأجيال القادمة -إن شاء الله-، ولو أفسدها الأجداد وعبثوا بها لم نجد ما ننتفع به الآن، ولا ما نستمتع به..
عناصر البيئة :
بِدَايَةً إِنَّ أيَّ قَارِئٍ لِلْقُرآنِ الكريم سَتَستَوقِفُهُ أَسْمَاءُ سُوَرٍ كَثِيرَةٍ فِي القُرآنِ الكريم هِيَ عَنَاصِرُ مُكَوِّنَةٌ لِلْبِيئَةِ، وَمَا تَسْمِيَةُ السُّوَرِ بِهَا إِلاَّ دَلِيلُ اهتِمَامِ القُرآنِ بِهَذِهِ العَنَاصِرِ وَالظَّوَاهِرِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالبِيئِيَّةِ ، وَمَا تَحْمِلُهُ مِنْ دَلاَلاَتٍ، فَيُمكِنُ لِمُتَصَفِّحِ القُرآنِ أَنْ يَجِدَ سُوَراً تَحْمِلُ أَسْمَاءَ الظَّوَاهِرِ وَالمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ كَـ”الرَّعْدِ وَالقَمَرِ وَالشَّمْسِ وَالنَّجْمِ وَالبُرُوجِ”، وَمُكَوِّنَاتِ الزَّمَانِ كَـ”اللَّيلِ وَالفَجْرِ وَالضُّحَى”، وَبَعْضِ الحَيَوانَاتِ كَـ”البَقَرَةِ وَالأَنْعَامِ وَالنَّحلِ وَالنَّملِ وَالعَنْكَبُوتِ وَالفِيلِ”..
هَذَا فَضْلاً عَمَّا يَرِدُ فِي الآيَاتِ القُرآنِيَّةِ مِنْ حَدِيثٍ مُطَوَّلٍ عَنِ الجِبَالِ وَالبِحَارِ وَالأَنْهَارِ وَالأَشْجَارِ وَأَنْوَاعِهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ العَنَاصِرِ البِيئِيَّةِ التِي خَلَقَهَا اللهُ، وعَلَيْهِ فَالبِيئَةُ حَاضِرَةُ الذِّكْرِ فِي القُرآنِ بِقُوَّةٍ وَشُمُولِيَّةٍ لِجَمِيعِ عَنَاصِرِهَا، وَمَا ذِكْرُهَا إِلاَّ لاكتِشَافِهَا وَالاعتِبَارِ بِهَا وَالتَّأمُّلِ فِي خَلْقِهَا واكتِشَافِ قَوَانِينِهَا، وَإنَّ أَهمَّ مَا يَلفِتُ النَّظَرَ فِي حَدِيثِ القُرآنِ عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ ذِكْرُهُ لِلْوَظِيفَةِ الأَكْمَلِ لَهَا، وَهِيَ دَوْرُهَا الجَمَالِيُّ، قَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)[الكهف:7]، وَقَالَ -جَلّ شَأْنُهُ-: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)[النحل:5-8]..
والجَمَالُ فِي الخَلْقِ إِنَّمَا هُوَ مَصلَحَةٌ كَمَالِيَّةٌ اعتَنَى بِهَا الإِسْلاَمُ، فَمِنْ بَابِ أَولَى اهتِمَامُهُ بِمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ لِلْحَيَاةِ فِي هَذِهِ البِيئَةِ، فَحِفْظُ التَّوَازُنِ البِيئيِّ لِلْخَلْقِ الإِلَهِيِّ كَمَا أَقَامَهُ اللهُ إِنَّمَا هُوَ آكَدُ فِي التَّكْلِيفِ مِنْ حِفْظِ الجَمَالِ الطَّبِيعِيِّ الذِي جَعَلَهُ اللهُ لَنَا، وَنِعْمَةُ الجَمَالِ فِي البِيئَةِ وَالطَّبِيعَةِ هَذِهِ تُرَتِّبُ عَلَينَا وَاجِباً شَرْعِيّاً نَحْوَها، وَهُوَ أَنْ نَسْعَى لاستِدَامَةِ هَذَا الجَمَالِ فِي الخَلْقِ، وَذَلِكَ بِتَعْمِيمِ الخُضْرَةِ وَمُكَافَحَةِ التَّصَحُّرِ وَتَنْمِيَةِ المَوَارِدِ الطَّبِيعِيَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ خِلاَلِ الزِّرَاعَةِ والتَّشْجِيرِ..
وهذه البيئة بكل مكوناتها قد خلقها الله -تعالى- من أجلنا وسخرها لنا ولخدمتنا، فقال -عز من قائل- ممتنًا علينا بهذه النعمة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)[البقرة: 29]، وقال -سبحانه- مرة أخرى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان: 20]..
العنصر الثاني :
التحذير من الفساد والعبث بالطبيعة
قَالَ -تَعَالَى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف:55-56]..
وَالفَسَادُ هُنَا مَعنَاهُ عَامٌّ شَامِلٌ، فَمِنْهُ العَبَثُ بِالطَّبِيعَةِ وَالبِيئَةِ وَتَغْيِيرُ طَبِيعَتِها وَتَوظِيفُ الأُمُورِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَتْ لَهُ، لِذَلِكَ أَخْبَرَنا اللهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ الفَسَادَ الذِي يَرَاهُ الإِنْسَانُ فِي الطَّبِيعَةِ بَرَّاً وَبَحْراً لَمْ يَأْتِ إِلاَّ بِفِعْـلِ الإِنْسَانِ، قَالَ -تَعَالَى-: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم:41]..
تخريبُ وتدميرُ المنشآتِ العامَّةِ من أهم صور الفساد وألوانه ،
و حرقِ المنشآتِ العامَّةِ وإتلافِ الحدائقِ يُعدُّ مِن صورِ التعدِّيِ على المرافقِ العامَّةِ، وقد توعدَ اللهُ هؤلاءِ بقولِهِ جلَّ وعلا: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . ( المائدة: 33) ..
وَقَدْ جَاءتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ بِأَحكَامِهَا المُتَنَوِّعَةِ لِرِعَايَةِ مَصلَحَةِ الإِنْسَانِ وَحِفْظِ نَفْسِهِ وَدِينِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ شَيءٍ فِي هَذَا الكَوْنِ مُسَخَّرٌ لِلإِنْسَانِ، وَأَيُّ فِعْـلٍ يُفْسِدُ هَذَهِ المُسَخَّرَاتِ وَيُخِلُّ بِوَظِيفَتِها ويُعَطِّلُ فَائدَتَها إِنَّمَا هُوَ تَعَدٍّ عَلَى قَوانِينِ الخَلْقِ الإِلَهِيِّ ، وتَعَدٍّ عَلَى مَصلَحَةِ الإِنْسَانِ التِي رَعَاهَا اللهُ فِي أَحْكَامِهِ، وَلَدَى التَّأمُّلِ فِي النُّصُوصِ وَالأَحكَامِ وَالآدَابِ الإِسْلاَمِيَّةِ نَجِدُ أَنْمَاطاً وَنَمَاذِجَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ التِي تَتَّجِهُ مُبَاشَرَةً لِلاهتِمَامِ بِالبِيئَةِ وَرِعَايَتِهَا وَالمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ أَحكَامٌ لاَ تَقِفُ عِنْدَ تَحْرِيمِ العُدْوَانِ عَلَى البِيئَةِ وَالمَخْلُوقَاتِ وَالمُسخَّرَاتِ، إِنَّمَا تُوجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ فِعْلَ مَا يَصُونُ بِهِ البِيئَةَ وَيَحفَظُ طَبِيعَتَهَا وَسُنَّةَ اللهِ فِيها..
إن دين الإسلام بريء من كل صور الفساد ؛ فأخطاء كثير من المسلمين وتصرفاتهم وتدنيهم وتخلفهم نابعة من سوء الفهم وليس من الدين؛ لأن دين الإسلام دين الخير والنظافة والنظام ، والأخذ بأسباب التقدم في كل المجالات ، مع الاعتماد على رب الأسباب..
العنصر الثالث :صور المحافظة على البيئة..
إِنَّ مَفْهَومَ البِيئَةِ مَفْهُومٌ شَامِلٌ كما سبق البيان، وَإِنَّ الشَّرِيعَةَ الإِسْلاَمِيَّةَ جَاءَتْ لإِقَامَةِ مَصَالِحِ العِبَادِ الشَّامِلَةِ، فَأَمَرَتْ بِكُلِّ مَا هُوَ نَافِعٌ وَحَرَّمَتْ كُلَّ مَا هُوَ ضَارٌّ، فَكُلُّ نَافِعٍ لِلْبِيئَةِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا أَمَرَتْ بِهِ، وَكُلُّ ضَارٍّ بِالبِيئَةِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا نَهَتْ عَنْهُ، وَالقَاعِدَةُ الأَسَاسِيَّةُ فِي الأَحْكَامِ تَنُصُّ أَنَّهُ “لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ”، فَالضَّرَرُ مَمْنُوعٌ مَنْعاً مُطْلَقاً وَالعُدْوَانُ عَلَى البِيئَةِ ضَرَرٌ مُحَرَّمٌ لِمَا يُسبِّبُهُ مِنْ أَذَىً لِلْجَمَاعَةِ، لِذَلِكَ أَقَرَّتِ الشَّرِيعَةُ الأَحكَامَ التِي فِيهَا حِمَايَةٌ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ تَجَاوزَاتِ الأَفْرَادِ وَإِنْ مَسَّ ذَلِكَ بِحُريَّاتِهم..
تعالوا بنا –أَيُّهَا الإِخْوَةُ- نَستَعْرِضُ صورا و جَوَانِبَ مِنَ الأَحْكَامِ التِي هِيَ جُزْئيَّةٌ وَتَفْصِيلِيَّةٌ، لَكِنَّها تَصْنَعُ الحَيَاةَ وَتَبُثُّ الخَيْرَ وَتَجْعَلُ الجَمَالَ يَعُمُّ الطَّبِيعَةَ وَالأَشْيَاءَ إِذَا مَا التَزَمَ المُسلِمُونَ بِهَا، تَذَكَّروا مَعِي التَّشرِيعَاتِ الآتِيَةَ:
أَولاً: الأَمْرُ بِالنَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ الدَّائمَةِ فِي البَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالمَكَانِ، وَعَلَى امتِدَادِ الزَّمَانِ، خاصة عند الاستعداد للصلاة وسائر العبادات ، مَا يَعْـنِي أَنَّ المُسلِمَ يَنْبِغي أَنْ يَستَأْصِلَ مَوارِدَ التَّلَوُّثِ مِنْ حَولِهِ بِشَكْلٍ دَائمٍ وَلاَ يَتْرُكَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ المُسلِمَ الأَشَدَّ حِرْصاً عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة:222]، وَالنَّظَافَةُ أَهَمُّ أَسَاسٍ مِنْ أُسُسِ الحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ.
ثَانِياً: إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مِنْ شُعَبِ الإِيمَانِ، كَمَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنِ النَّبِيِّ –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-..منها :
قوله -صلى الله عليه وسلم-: “الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ”(رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-) وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا يُؤْذِيهِمْ؛ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهِ حَسَنَةً، وَمَنْ كُتِبَ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةٌ، أَدْخَلَهُ بِهَا الْجَنَّةَ”(رواه أحمد والطيالسي عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وسنده صحيح)..
وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ، فَأَخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ”(رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-) وفي رواية لمسلم: “مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ” وفي أخرى قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ” وعنده كذلك قَالَ أَبُو بَرْزَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “اعْزِلِ الْأَذَى، عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ”.
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ”(رواه مسلم)،
ثَالِثاً: طهارة المساجد وصيانتها المساجد والبقعة التي يصلي عليها المسلم لابد أن تكون نظيفة، فإذا تلوثت الأرض فإن الصلاة لا تصح عليها، قال -صلى الله عليه وسلم-: “وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ”(متفق عليه).
والمساجد بيوت الله، ودور العبادة والعلم، واجبٌ صيانتها وتطهيرها معنى وحساً، قال -تعالى-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)[ الحج:26]، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “أَمَر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِبناء المساجد في الدُّورِ، وأن تُنظَّف، وتُطيَّب”(رواه أبو داود)..
وحذر -عليه الصلاة والسلام- من ارتياد المساجد بما فيه رائحةٌ تُؤذِي، فقال: “من أكلَ ثومًا أو بصلاً فليعتزِلنا، أو ليعتزِل مسجِدنا وليقعُد في بيته”(متفق عليه)، وقال: “البصاق في المسجد خَطيئة، وكفَّارتها دفنها”(متفق عليه)..
رابعا: الانْتِفَاعُ بِجُلُودِ المَيْـتَةِ، فَقَدْ جَاءَ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-مَرَّ بِشَاةٍ مَيْـتَةٍ فَقَالَ: “هَلاَّ انْتَفَعتُمْ بِإِهَابِها”؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْـتَةٌ، قَالَ: “إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا”، وَفِي هَذَا تَشْجِيعٌ عَلَى الانْتِفَاعِ بِكُلِّ شَيءٍ فِي الطَّبِيعَةِ يُمكِنُ الانْتِفَاعُ بِهِ وَعَدَمِ تَركِهِ لِلتَّلَفِ، وَهَذا أَصْـلٌ فِي الحَثِّ عَلَى الصِّنَاعَاتِ التَّحْوِيلِيَّةِ التِي تُقلِّلُ التَّلَوُّثَ، وَتَحَدُّ مِنْ تَكَاثُرِ النُّفَايَاتِ الضَّارَّةِ بِالبِيئَةِ..
خامساً: أَوْجَبَ الإِسْلاَمُ إِطْعَامَ الحَيَوانِ الذِي يَحُوزُهُ الإِنْسَانُ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ تَجْوِيعَهُ، فَعَنِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-أَنَّهُ قَالَ: “دَخَلَتِ امْرَأةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْها وَلَمْ تَدَعْها تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ”، بَلْ أَمَرَتِ الشَّرِيعَةُ بِالمُحَافَظَةِ عَلَى جَمِيعِ أَصْنَافِ الحَيَوانَاتِ وَعَدَمِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا، لِمَا لَهَا مِنْ دَوْرٍ فِي الحِفَاظِ عَلَى التَّوازُنِ البِيئيِّ وَالتَّنَوُّعِ الحَيَوِيِّ، بِاعتِبَارِ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا يُمَثِّلُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ التِي خَلَقَها اللهُ لِحِكْمَةٍ يَعلَمُهَا، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَّ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)[الأنعام:38]..
سادساً: نَهَى الإِسْلاَمُ عَنِ الإِسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ لأَيٍّ مِنَ النِّعَمِ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف:31]..
والإسراف يكون في استعمال الماء ، والكهرباء، واستهلاك الموارد، وفي الطعام والشراب، وذبح ما يؤكل لحمه من الطيور والأنعام بأن يقتصر فيه على الحاجة..
والإِسْرَافُ هُوَ تَبْذِيرٌ لِلثَّرَوَاتِ وَإِهْدَارٌ لِلنِّعَمِ، وَلاَسِيَّمَا نِعْمَةِ الماء التِي يَكْثُرُ فِيَها الهَدْرُ..
فقد مَرَّ ﷺ بِسيدِنَا سَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ فَقَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ.” ..(أخرجه الإمام أحمد في مسنده)..
سابعاً: سوء التصرف والسلوك مع البيئة بوجه عام ..
من الصور السيئة قيام المارة في الطريق العام والحدائق العامة كسر المصابيح وإتلاف أعمدة الإنارة ، ومصادر المياه أو مقاعد الانتظار، أو قيام الموظف الذي يعمل على ماكينة، أو تسلم سيارة للعمل عليها بتعمد إتلاف ما تحت يده بهدف الحصول على إجازة أو راحة !!..
ومن الناس من يلقي بقاذوراته من شباك سيارته وهو يسير، المناديل وحفظات الأطفال ، وقد ينظر للأمر على أنه بسيط مجرد ورقة أو علبة فنقول له نعم بسيط ولكن لو كان يعيش في البلد مليون شخص وكل واحد منهم ألقى ورقة منديل أو علبة فعندها يتكون تلا أو جبلا من القمامة والنفايات الضارة ..
ومنهم مع الأسف من يتعمد الإفساد في الممتلكات العامة فتجده يأتي إلى جدار مدرسة أو جدار في أماكن سياحية عامة فيكتب عليها فيسيء إلى منظرها بعد أن كانت جميلة،وقد يكتب كلاماً يخدش الحياء!. (الشرق نيوز)..
كما حذر الإسلام من سوء استخدامِ المياهِ والإسراف فيهَا ، و دعَا إلى تنقيتِهَا وطهارتِهَا، وعدمِ إلقاءِ القاذوراتِ والمخلفاتِ والبقايَا فيها، باعتبارِ أنَّ الماءَ أساسُ الحياةِ، وقد جاءتْ أوامرُهُ ﷺ ناهيةً عن أنْ يُبالَ في الماءِ الراكدِ أو الجارِي ، فَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: ” أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ” (مسلم) ، وفي رواية: ” لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ” (متفق عليه)..
تعال ولنستمع سويا إلى هذا التحذير النبوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:((اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قَالُوا وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))أخرجه الإمام مسلم..
وأخرجَ الطبرانِيُّ أنَّ النبيَّ ﷺ قال: « مَنْ آذَى المُسْلِمِينَ في طُرقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ ».. بأي شكل من أشكال الأذى ، والعلة من ذلك حتى لا نتسبب في تلوث البيئة ،
و تنتشر الأمراض والجراثيم بين أفراد المجتمع..
هَذِهِ يا إخوة الإسلام نَمَاذِجُ مِنَ التَّكَالِيفِ وَالآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ ذَاتِ الصِّلَةِ بِالحِفَاظِ عَلَى البِيئَةِ وَرِعَايَتِها، وَهِيَ جُزْءٌ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَهُوَ إِعْمَارُها وَعِبَادَةُ اللهِ فِيهَا، وَلَنْ تَستَقِيمَ العِبَادَةُ مِنْ غَيْرِ العِمَارَةِ، فَعُمْرانُ الأَرْضِ شَرْطٌ لاستِقَامَةِ العِبَادَةِ وَإِكْمَالِ مُهِمَّةِ الإِنْسَانِ فِي هَذَا الوُجُودِ، فَهَلْ يُدْرِكُ أَحَدُنَا بَعْدَ الذِي بَيَّنَّا مَخَاطِرَ تَسَاهُلِهِ فِي الالتِزَامِ بِالقَوانِينِ التِي تُنَظِّمُ أُمُورَ البِيئَةِ فِي مُجتَمَعِنَا، بَدْءاً مِنْ أَصْغَرِ الأُمُورِ الفَرْدِيَّةِ كَنَظَافَةِ المُحِيطِ وَالحَيِّ وَالشَّارِعِ وَالمَسْجِدِ وَالمَدْرَسَةِ، إِلَى مَا هُوَ أَوسَعُ وَأَخْطَرُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ القَوَانِينُ الخَاصَّةُ بِالمَصَانِعِ والمُؤَسَّساتِ التِي تَتَعاطَى مَا يُلَوِّثُ البِيئَةَ؟..
وهذا يدل على كمال الشريعة الإسلاميَّة وسمُّوها، من حيث النظافة والنَّزاهة، وبُعْدُهَا عن القَذارة والوسَاخة، وتحذيرُها عمَّا يَضُرُّ النَّاس في أبْدَانِهم وأديانهم وأخلاقهم..
العنصر الرابع :مكونات البيئة نعمة يجب شكر الله عليها..
ودين الإسلام عد عناصر البيئة ومكوناتها نعمة من الله جل جلاله ، وكل نعمة يقابلها واجب الشكر لله -تعالى-، فإن لم نشكرها نُزعت وزالت: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، “أي: لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها، (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها، (إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ): وذلك بسلبها عنهم، وعقابه إياهم على كفرها”(تفسير ابن كثير)..
يكون شكر الهواء بأن نستنشقه نقيًا نظيفًا ونستشعر فضل الله علينا فيه، فإن كفرنا بنعمته فلوثناه بالأبخرة والأدخنة، نزعه الله منا؛ فنستنشقه فيؤذينا وقد يردينا…
ومن كفران نعمة الماء أيضًا أن نسرف في استخدامه ونبذره،
ويكون شكر الطرقات التي مهدها الله -تعالى- بأن نحافظ عليها نظيفة منظمة مرتبة، فإن كفرنا بنعمة الله علينا فيها فلوثناها وأثرنا بها الفوضى والأوساخ، نزعها الله منها فلم نجد طريقًا ممهدًا نسلكه، فتتعطل مصالحنا وتتعسر حياتنا وتنقلاتنا… وقل مثل ذلك في كل نعمة تحيط بنا من نعم الله -عز وجل- في بيئتنا..
ومن شكر الله على هذه النعم المحافظة على البيئة: ومثال ذلك: المحافظة على الأشجار والنباتات، وتجنب تلويث الحدائق والمنتزهات، ببقايا الأطعمة والنفايات، والمخلفات البلاستيكية والزجاجية، التي تضر بالإنسان والنبات والحيوان، وكذلك البعد عن الاحتطاب والرعي الجائر، كما يلاحظ عدم إشعال النار إلا في الأماكن المسموح بها، وإطفاؤها ليلاً عند النوم، وعند مغادرة المكان.
ومما ينبغي التنبه له أثناء الذهاب للمتنزهات البرية أن يكون قائد المركبة على يقظة وتؤدة وسكينة، مع الابتعاد عن مجاري السيول، وبطون الأودية والشعاب، فإن بعض قائدي المركبات -هداهم الله- قد يجازف فيخوض بمركبته الأودية أثناء جريانها، وهذا تعريض للنفوس والأموال إلى التهلكة والتلف، فكم فقدت بهذا الصنيع من نفوس، وفقد من عزيز!..
كما يكون شكر الأنهار بصيانتها وحسن استخدامها وعدم تلويثها، فإن لوثناها نزعها الله منا؛ فلم نجد ماءً نشربه أو نروي بها زروعنا…
أيها الإخوة: وحث الإسلام على الزرع والغرس؛ لما فيه من الخير وتطييب الأجواء فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا”(رواه أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وهو صحيح الاسناد) ..
وَفِي هَذَا الحَدِيثِ حَثٌّ لِلْمُسلِمِ عَلَى استِمْرَارِ العَمَلِ بِمَا يُحْيِي البِيئَةَ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى ذَلِكَ بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّنْ يَجْـنِي ثَمَرَتَهُ وَنَتِيجَتَهُ، فَالغَرْسُ شَأْنٌ يَعْنِي النِّظَامَ البِيئيَّ، وَالحِفَاظُ عَلَيْهِ اليَوْمَ هُوَ حِفَاظٌ عَلَى حَيَاةِ الأَجْيَالِ القَادِمَةِ، وَتَدْمِيرُهُ عُدْوَانٌ قَدْ يُصِيبُ الإِنْسَانَ اليَوْمَ فَضْلاً عَنِ الأَجْيَالِ اللاَّحِقَةِ..
وَعَنْ أُمُّ مُبَشِّرٍ امْرَأَةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي حَائِطٍ فَقَالَ: “يَا أُمَّ مُبَشِّرٍ أَلَكِ هَذَا؟” فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: “مَنْ غَرَسَهُ؟ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ؟” قُلْتُ: مُسْلِمٌ قَالَ: “مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا؛ إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتْ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ”(رواه الإمام مسلم ).. فَقَدْ جَعَلَ اللهُ ثَوَاباً دَائماً عَلَى الغَرْسِ، أَيّاً كَانَ نَوْعُهُ وَأيَّاً كَانَ المُستَفِيدُ مِنْهُ، فَالغَرْسُ وَالخُضْرَةُ خَيْرٌ فِي كُلِّ حَالٍ يَستَفِيدُ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَالحَيَوانُ، وَيَحفَظُ التَّوَازُنَ فِي الطَّبِيعَةِ..
أيها الإخوة: هذا أجر من غرس وزرع، فما بال أناسٍ يفسدون ما أنبته الله من العشب والكلأ بسيارتهم ودراجاتهم النارية روحة وجيئة بلا هدف، ويفحتون فيها، وكأن أحدهم قد استأجر لحرث الأرض! لقد أفسد هؤلاء الغطاء النباتي فأصبحت البراري القريبة مجدبة لا تنبت وكسَّروا الأشجار وقطعوها بلا مبرر مع منع ذلك من الجهات الرسمية، وحُرم الناس من الاستمتاع بجمال الخضرة، وأصحاب المواشي من الرعي فيها ثم ما يترتب على هذه التصرفات غير المسؤولة وغير المفيدة من حوادث راح ضحيتها أنفس، أو حدثت بسببها إصابات بالغة من كسور أو جروح، وربما فقد بعضهم الوعي وبقي ميتا بين الأحياء، وصار خسارة وعالة على أهله ووطنه..
وقد أمرنا الإسلام بالحفاظ على بيئتنا بجميع مكوناتها، وحرَّم الإسلام الإضرار بها وكفرانها..
وختاماً: يا إخوة الإسلام حافظوا على بيئتكم ومرافقها العامة؛ ففي نظافتها ونقائها طيبة النفوس، وسلامة الأجساد من العلل، والغرس والزرع يزيد البيئة نضارة وجمالاً، ويخفف من غلواء التلوث، والمحافظة على البيئة مسؤولية مشتركة تقلل من الآثار السلبيَّة للتنمية الصناعيَّة، وتحقِّق التنمية المستدامة، ولترسيخ ذلك ينبغي تشجيع المبادرات الاجتماعية فيما يتعلق بالعناية بالمساجد، والمرافق العامة، وتثقيف النشء والمجتمع بذلك، فحماية البيئة تدلُّ على حضارة الأمَّة ورقيِّها..
ولا شك أن كثرة الاستغفار واللجوء إلى الله من أسباب البركة في الحياة ، وعامل مهم في زيادة موارد البيئة ونمائها..
قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 – 12]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
والطاعات والحسنات وتقوى الله سبيل للخير والبركة للفرد والمجتمع، والمعاصي والسيئات سبيل لِمَحْقِ البركة وضيق الرزق، وما أجمل مقولة عبدالله بن عباس رضي الله عنه: “إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسَعَةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر والقلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق”!..
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا واصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر واحفظ بلدنا وجميع بلاد المسلمين
ونسأل الله السلامة لبلدنا مصر و لأمتنا والمستضعغين في كل مكان ، وسائر بلاد المسلمين.