الإعراض عن الجاهلين
18 أكتوبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى
هناك صنف من الناس يسيء إليك ولا يعتذر، يضرك ولا ينزجر، نفوسهم شرسة بطبعها، وقلوبهم قاسية بفطرتها، يسرقون حياتك ويشتتون تفكيرك ويُعيقون سيرك، فكيف تتعامل معهم وتتقي شرهم؟
وكيف نخرج منهم سالمين كما تخرج الشعرة سالمة من العجين، وأفضل طريقة للتعايش معهم هي ألا تجاريهم في إساءتهم ولا تساريهم في ضررهم، بل نحسن إليهم لتتقي شرهم وتحافظ على كرامتك؛ ولهذا قال الله تعالى لموسى وهارون في معاملة فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[طه: 44]، ولقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في التعامل مع هذا الصنف من الناس، ومن ذلك:
– أن رجلا، استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” ائذنوا له فبئس رجل العشيرة ، فلما دخل عليه أَلَان له القول وتلطف معه، فتعجبت عائشة وقالت: يا رسول الله، قلتَ له ما قلتَ ثم ألنت له الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم: ” يا عائشة, إن شر الناس منزلة يوم القيامة، من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه”، وهذا ليس نفاقاً معاذ الله ولكنه اتقاء لشر هؤلاء
ـ دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السَّامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: عليكم السَّامُ واللعنة، فقال النبي عليه السلام: “مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله”، قالت: فقلت: يا رسول الله، ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فقد قلتُ: عليكم”، فقد نهانا الشرع الحنيف عن سوء الخلق حتى مع سيء الخلق وقليل الأدب، فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199].
إذا نطق السفيه فلا تجبه * فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه * وإن خليته كمدا يموت
ومدح القرآن الكريم الذين يتجاهلون سيء الأخلاق، فقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما … كعود زاده الإحراق طيبا
فالسفيه أصله من شَوك السمك وسفهه الذي لا قيمة له، وكذلك السفيه، فلا تجعل له قيمة بمجارته والرد عليه، فمن تجاهل السفيه فقد أوسعه جواباً وأوجعه عقاباً؛ ولهذا لما دخل عيينة بن حصن على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر رضي الله عنه حتى هَمَّ به، فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، قال الرواي: والله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وَقَّافًا عند كتاب الله تعالى.
ولكن ما يدريك لعلهم بالمعاملة الحسنة ينقلبون بقدرة الله إلى أصحاب وأحباب، كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 34، 35]، فما يقدر على الصبر على أذى الجاهلين والإحسان إلا من كان ذو حظٍ عظيم في الدنيا والآخرة.