أثر العمل الصالح في تفريج الكُرُبات

بقلم الدكتور :  محمد إبراهيم محمد الحلواني
أستاذ الحديث وعلومه المشارك في كلية العلوم الإسلامية في جامعة المدينة العالمية بماليزيا

الإنسان في هذه الحياة تعترضه المشكلات, ويمر بالشدائد والأزمات, يرجو أن يكون مستورا أمام البريات, والله عز وجل مع عبده المؤمن الذي لجأ إليه في الرخاء, لا يتركه وقت الشدائد, وطاعة الله عز وجل هي السبيل الوحيد لتفريج الكربات, ورفعة الدرجات, ودفع النَّقَمَاتِ, وإجابة الدعوات, وقضاء الحاجات، فَمَا استُجْلِبَت نِعْمَةٌ، وَلَا استُدْفِعَت نِقْمَةٌ، بِمِثْلِ طَاعَةِ اللّه عَزَّ وَجَلَّ, فالتقوى باب لتفريج كربات الفقر والظلم والجهل والسيئات والمعاصي والشرك والكفر إلى غير ذلك, فدواء هذه الأمور وغيرها أن يتقي المسلم ربه بترك الأمور التي حرمها حتى يفوز بالفرج والتيسير, ومن الحسنات التي تدفع السيئات تفريج الكربات, والتيسير على المعسرين, وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين, فمن شرح صدر قريبه وجاره ويسَّر أمر أخيه المسلم المحتاج يسر الله أمره, فما دمت في عون أخيك فالله في عونك, والخلق عِيالُ الله، وتنفيسُ الكُرَب إحسانٌ إليهم، والعادةُ أن السيد والمالكَ يحبُّ الإحسان لعِياله وحاشيتِه، وليس شيءٌ أسهلَ من كشف الكُروب, ودفع الخُطوب إذا ألمَّت بالمؤمن الذي لا يرى نفسَه إلا وقفًا على إخوانه، يُعينهم فيما استطاع، ويُصبِّرُهم على ما كان، يُؤمِّنُ خائفهم، ويُساعد ضعيفَهم، ويحمِل ثِقَلهم، يجِدون عنده المعدومَ، لا يضجَرُ منهم، ولا يملُّهم, فلنكن في حاجة إخواننا حتى يقضي الله حوائجنا, ويكشف كرباتنا.

تفريج كربات الأنبياء بسبب الذكر والدعاء.

للعمل الصالح أثر إيجابي في حياة المسلم , فهو يصنع الحياة بعد الموت , والعز بعد الذل , والشجاعة والإقدام بعد الخوف والإحجام , يجعل للحياة طعماً، وللدنيا لوناً , وللقلب ثباتاً، وللصدر انشراحاً , ومن أهم وسائل الثبات في المحن بعد الإيمان بالله عز وجل الصبر على الشدائد , والتوكل على الله , والإنابة والتضرع إليه , ولنأخذ من حياة أبي الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام العبرة والعظة , فقد قدم ولده للقربان , و جسده للنيران، و قلبه للرحمن، ولما همَّ قومه بإلقائه في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل , فعن ابن عباس رضي الله عنهما حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، «قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} [آل عمران: 173][1] ,

وللتوكل على الله وملازمة الذكر والدعاء وصالح الأعمال آثار حميدة , ولذة عجيبة لا يجدها إلا الخُلّص من عباد الله، وجدها إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار، توكل على مولاه فصارت النار بردًا وسلامًا، ووجدها يوسف عليه السلام عندما أُلقِي في الجُبّ ووُضِع في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، ووجدها رسول الله وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم، قال الله تعالى: (إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) , (سورة التوبة: )40، وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأسًا من كل من سواه.

تفريج كربات الصالحين بسبب طاعة رب العالمين.

من التوسل المشروع التوسل إلى الله عز وجل بصالح الأعمال , يشهد لذلك حديث عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: (انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ،

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا[2] فَنَأَى[3] بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ “، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”

وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ[4] بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ[5]، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا “، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “

وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُون[6]) ,

فالأول من هؤلاء الثلاثة ضرب مثلاً عظيماً في البر بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه، ولا أن يسقي أولاده وأهله، ولا أن ينغص على والديه نومهما حتى طلع الفجر فدل هذا على فضل بر الوالدين، وعلى أنه سبب لتيسير الأمور وتفريج الكروب

والثاني: ضرب مثلاً بالغاً في العفة الكاملة، فحين تمكن من الوصول إلى مراده من هذه المرأة، التي هي أحب الناس إليه، تركها حينما ذكَّرته بالله عز وجل , والثالث: رجل ضرب مثلاً عظيماً في الأمانة والنصح , حيث ثَّمر للأجير أجره فبلغ ما بلغ، وسلَّمه إلى صاحبه، ولم يأخذ على عمله شيئا , فهؤلاء الثلاثة لما ضاقت بهم السُّبل توسلوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم , فكانت النتيجة تفريج الشدائد والكربات , فمن تعرَّف على الله في الرخاء عرفه الله وقت البلاء , ومن تعرف على الله حال صحته , عرفه الله وقت مرضه , ومن تعرف على الله في حياته , عرفه الله ساعة احتضاره , والله أسال أن يهدينا لصالح الأقوال والأعمال , وأن يكشف عنا الكربات , ويجمعنا مع سيد البرِيَّات , وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

[1] – أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب: تفسير القرآن , بَاب: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] الآيَةَ , 6/39, ح رقم: (4536) , دار طوق النجاة , ط: الأولى , 1422ه.
[2] – أي: مَا كُنْتُ أقَدَّم عَلَيْهِمَا أحَداً فِي شُرْب نَصِيبهما من اللّبن الذي يشربانه , والغَبُوق الغُبُوق: شُرْب آخِر النَّهَارِ مُقَابِل الصَّبُوح. (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/341) , المكتبة العلمية , بيروت، 1399هـ – 1979م.
[3] – أي: بعد بي طلب الشجر التي ترعاها الإبل. (الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة 4/38), دار الوطن , 1417ه, تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد.
[4] – أي: أتت عليها سنة شديدة أحوجتها. (شرح صحيح البخاري لابن بطال 6/398) , مكتبة الرشد , السعودية , الرياض , 2003م.
[5] – الحق هنا: الوجه الجائز من نكاح , لا بالباطل من الفاحشة، والخاتم كناية عن عذريتها، أي: لا يستبيح افتضاضها إلا بما يحل من النكاح. ( إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض 8/273) , دار الوفاء , مصر, ط: الأولى , 1998م , تحقيق: د. يحيي إسماعيل.
[6] – أخرجه البخاري في صحيحه , كتاب: الإجارة , بَاب: مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَتَرَكَ الأَجِيرُ أَجْرَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ المُسْتَأْجِرُ فَزَادَ، أَوْ مَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَاسْتَفْضَل , 3/91 , ح رقم: (2272).