الإقناع العقلى فى الخطاب النبوى


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

قد تستولي على النفس البشرية وساوس أو هواجس تجلب لها الهم والقلق وتنغص عليه الحياة والعيش، والأجدر بالإنسان المسارعة لقطع هذه الوساوس، وهو ما فعله الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، ولد لي غلام أسود! ـ وقد تمكن منه الشك والريبة في امرأته ـ، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب الإقناع العقلي، لا بمجرد نفي التهمة عن امرأته،
وقال له: “هل لك من إبل؟
” قال: نعم، قال: “ما ألوانها؟ ”
قال: حمر، قال: “هل فيها من ‌أورق” ـ أي رمادي ـ قال: نعم، قال: “فأنى ذلك” قال: لعله نزعه عرق، قال: “فلعل ابنك هذا نزعه “، فاستخرج النبي صلى الله عليه وسلم الجواب من قناعة نفسه ومن حياته العملية، وأن الجينات الوراثية للأجداد قد لا تظهر بعضها إلا في الأحفاد أو أحفاد الأحفاد، وذلك في النسل البشري أو الحيواني على حد سواء، وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم دائماً ما يحيط كلامه بالحكمة والخطاب الإقناعي،

ومن ذلك:
ـ لما أخبر أصحابه عن الصدقة المعنوية في التهليل والتحميد والتكبير، وإماطة الأذى عن الطريق، وإسعاد الناس ونصحهم، وقضاء الشهوة في الحلال، تعجب الصحابة من ذلك وقالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟!
فقال: ” أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر؟”

قالوا: بلى. قال: ” فكذلك إذا وضعها في الحلال، يكون له الأجر”، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقياس العكس؛ ليقنعهم أن مفهوم العبادة أوسع وأشمل مما تظنون، وأنها تشمل المباح والحلال إذ صلحت فيه النية.

ـ وحينما سأل شاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في الزنا، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكمة والإقناع ومخاطبة العقل والفطرة،

وقال: “أتحبه لأُمِّك؟”
قال: لا، قال: “ولا الناس يحبونه لأُمَّهاتهم”، قال: “أفتحبه لابنتك؟”
قال: لا والله يا رسول الله، قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتحبه لأختك؟”

قال: لا، قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”،
قال: “أفتحبه لعمتك لخالتك؟”
قال لا، قال: “ولا الناس يحبونه لعماتهم ولا لخالاتهم”،
وزاده النبي صلى الله عليه وسلم عطفا وشفقة على ذلك أن وضع يده الشريفة عليه، ودعا له وقال: “اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّن فرجه”، حتى قال الروي عن هذا الشاب: فلم يكن بعد ذلك الشاب يلتفت إلى شيء. وكان يكفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أتحبه لأمك؟)، لكنه عَدَّدَ مَحَارِمه زيادة في الإقناع، وهذا هو المنهج القرآني الذي رسمه لنا لاستمالة القلوب إلى الحق وتنفيرها من الباطل، فقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النحل: 125]، أما سياسة فرض الأمر الواقع، أو مبدأ الأمر المباشر أو النهي المباشر فتنفر منه القلوب السليمة والعقول المستقيمة، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159]، فالإكراه تهميش للعقول والاستبداد قمع لأبسط حقوق الحرية، ولا يثمر الإقصاء إلا قناعة ظاهرية لا تلامس القلب، ولا تخالط بشاشته؛ ولهذا يتفلت الناس من سجن الرق والعبودية عند أول فرصة تسنح لهم.