حصاد الأسئلة المحرّمة
11 سبتمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال الثامن من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
معارك الظن واليقين:
ـ كان الليل في الدرعية ينزل على المدينة مثل غطاءٍ ثقيلٍ من الغبار والهمس.
ـ النجوم لا تبرق كثيرًا، كأنها تعرف أن الأرض هنا قد امتلأت بنارٍ لا تُحبّ الضوء.
ـ وفي دار محمد بن عبدالوهاب، لم تكن الشموع تُشعل فقط لتُنير الحروف، بل لتُراقبها.
جلس الشيخ أمام محبرته، متأملًا في خطوطٍ بدأ يكتبها منذ أيام، ثم عاد ليشطبها، ثم يعيد كتابتها بشكلٍ آخر.
على الطاولة أمامه، عشرات القصاصات، ممزقة أو مطوية أو موصومة ببقع الحبر الحارّ.
كتب، ثم توقّف:
«إن التوحيد هو الأصل، وكل من خالفه مشرك. وإن الشرك هو أعظم الظلم، ومن لم يكفّر المشرك فهو مثله.»
تأمل العبارة طويلًا، ثم نظر إلى جدار الغرفة.
كان الضوء الأصفر الخافت يرتجف على الطين اليابس، تمامًا كما يرتجف قلبه.
همس لنفسه، كمن يكلم رجلاً آخر يسكنه: – «ولكن، ماذا عن الذي خالف وهو يجهل؟ وماذا عن الذي أحب الله، وزار القبر، لا تعبّدًا لصاحبه، بل حبًّا فيه؟»
أعاد قراءة العبارة، ثم كتب فوقها، بخطّ مختلف:
«الجاهل يُعلَّم… ولا يُكفَّر.»
لكنّه حين قرأها من جديد، أحسّ وكأنها تضعف النص، وتترك ثغرة في جدار العقيدة.
مزّق الورقة.
في اليوم التالي، وقف محمد في مجلسه، يُدرّس للطلبة أحكام التوحيد، ويتحدث بثقة لا تهتزّ.
لكن داخل صدره، كان هنالك شيءٌ يتحرك… شيء يشبه القلق، لكنه أعمق.
قال أمامهم: – «الشرك ليس فقط عبادة صنم، بل كل ما يُقصد به غير الله في الطلب والدعاء والذبح والنذر…»
رفع أحد الطلبة يده، صوته كان رقيقًا، لكن عيناه جريئتان: – «يا شيخ، وهل يجوز أن نقول عن من يزور قبر النبي ويدعو الله هناك: إنه مشرك؟ وهو يشهد أن لا إله إلا الله، ويصلّي، ويصوم، ويُحبّ الرسول حبًا جمًا؟»
ساد صمتٌ قصير.
نظر محمد إلى الشاب، ثم أجاب بصوتٍ ثابت: – «المعيار ليس الحب، بل التوحيد. فلو أحب أحدٌ رسولًا أو وليًا حتى جعله واسطة بينه وبين الله، فقد وقع في المحظور. والنية وحدها لا تنقذ من الشرك.»
لكنّ العبارة نفسها ارتدّت في داخله كصدى لا يهدأ.
كان يدرك أن هناك فرقًا بين من يُشرّع الشرك، ومن يتورط فيه عن جهلٍ أو تقليدٍ أو عاطفة.
وكان يعلم، في دخيلة نفسه، أن أكثر الذين خالفوه… لم يكونوا كفّارًا، بل كانوا أبناء بيئة، أبناء حكاية، أبناء ذاكرة دينية طويلة.
في الليل، عاد إلى أوراقه.
أخرج كتابه القديم «كشف الشبهات»، وبدأ يقرأ فقراته كما لو أنه يقرأ نصًّا كتبه شخصٌ آخر.
قرأ هذا المقطع:
«وإذا عرفت أن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسله، وأنه لا يتم الإقرار به إلا بالكفر بالطاغوت، فاعلم أن أكثر من في الأرض قد كفروا بهذا التوحيد.»
توقف طويلاً.
همس: – «أكثر من في الأرض؟ أم أكثر من في قلبي أنا؟»
ثم كتب، في هامش الصفحة:
«هل كنت أبحث عن الحق… أم عن نُصرة نفسي؟»
ثم نظر إلى الجملة، وأغلق الكتاب فجأة كمن قبض على حيّة.
أحد كبار فقهاء الحجاز أرسل له رسالة طويلة، يخاطبه بأدب، ويخالفه في المنهج.
كان نص الرسالة كالتالي:
«شيخنا الفاضل، بلغني أنك تكفّر العامة بسبب زيارتهم للقبور، وأنك تصف علماء الأمة بالمداهنين، وتضع نفسك في مرتبة من يحكم على الإيمان والشرك.
أما نحن، فندعو إلى التوحيد، لكننا لا نكفّر إلا بما أجمع عليه المسلمون، ونخشى أن تكون دعوتك – رغم نيتك الطيبة – قد فتحت على الأمة بابًا من الفتنة…»
قرأ الرسالة ثلاث مرات.
وفي كل مرة، شعر بشيءٍ من الانقباض في صدره، لكنه رفض أن يعترف بذلك.
كتب ردًا قاسيًا:
«إنك ممن ينصرون الباطل باسم الأدب، وتخشون فتنة التكفير أكثر من فتنة الشرك! وهل يُداهن الأنبياء أقوامهم لأجل عدم الفتنة؟!»
لكنه لم يرسل الرد.
مرّت أيام، وبدأ بعض أتباعه يرتكبون تجاوزات.
أحدهم أحرق مكتبة في بلدة مجاورة لأن فيها كتبًا «تروّج للتصوف».
وآخر جلد شيخًا مسنًّا لأنه لم يتخلّ عن تقبيل يد معلّمه.
جاءت الأخبار لمحمد، وكان وجهه جامدًا، لكنه قال في سره:
– «إنهم يفهمونني على طريقتهم… لكنني مسؤول عن النار التي أطلقتها.»
في مجلس خاص، جلس مع محمد بن سعود، وكان النقاش بينهما هذه المرة دينيًا أكثر منه سياسيًا.
قال له الأمير: – «يا شيخ، هل نحن في حربٍ مع الكفار… أم مع المسلمين؟»
أجابه الشيخ: – «نحن في حرب مع من أظهر الإسلام وخرّبه بالشرك.»
قال الأمير، بنبرة ثقيلة: – «وما الذي يُفهمه الناس من هذا؟ أنكم تكفّرونهم، وتُحلّون دماءهم، حتى لو لم يعلموا.»
سكت محمد لحظة، ثم قال: – «أنا أدعو إلى الله، والأمير يُقيم الحدود. فإن اختلطت الدعوة بالدماء، فليس ذلك منّي، بل من السنّة التي لا تُفرّق بين العقيدة والحكم.»
لكنّه، في قلبه، كان يعرف أن الأمر لم يعُد بيده.
في أواخر هذا الفصل من حياته، بدأ محمد يدوّن خواطره في دفتر سريّ، لا يُطلعه على أحد.
كتب في إحدى الصفحات:
«من خاف من الفتنة فقد عرفها، ومن أنكر الشرك فقد مسّه.
ولكن، ما العمل إن صار التوحيد ذريعة للبطش، وصارت الفتوى مطية للقتل؟»
ثم كتب تحته:
«الدعوة نار، فإن لم تضعها في مصباح… أحرقت يدك ويد غيرك.»
وفي تلك اللحظة، سمع أذان الفجر، فقام يصلي.
لكن صلاته لم تكن صلاة من وجد الطمأنينة، بل صلاة من يناجي إلهًا ويسأله:
«هل كنتُ على حق؟ أم كنتُ فقط أول من رفع الصوت؟»
هكذا، عاش محمد بن عبدالوهاب معركة الظن واليقين بكل تقلباتها.
لم تكن مجرد معركة بينه وبين الناس، بل بينه وبين نفسه.
بين دعوة يرى أنها وحيٌ متجدّد، وواقعٍ يشبه الكوابيس القديمة.
لم يكن نبيًا، ولم يدّعِ العصمة، لكنه أيضًا لم يحتمل فكرة أنه قد يكون مخطئًا.
فالحقيقة بالنسبة له لم تكن هدفًا… بل كانت هوية.
ولم يكن مستعدًا أن يرى ذاته تنهار، ولو انهارت من أجلها أمة.
محبرة فوق الجمر :
حين خرج محمد بن عبدالوهاب من صلاته تلك، لم يكن الضوء قد تسلّل بعد إلى الأزقة الضيقة للدرعية.
كانت العتمة لا تزال تتمدد على جدران البيوت الطينية، والهواء ثقيلٌ برائحة الرماد… كأن المدينة نفسها تخبئ شيئًا.
عاد إلى غرفته الصغيرة، إلى المحبرة التي باتت تُشبه الجمر في قلبه، كلما اقترب منها احترق.
جلس أمامها وهو يشعر أن بينه وبين الحبر خصومة قديمة.
منذ صباه في العيينة، والحبر رفيقه.
علّمه والده عبدالوهاب بن سليمان أن لا يخطّ حرفًا إلا بعد أن يسأل قلبه مرتين:
هل هو لله؟
وهل هو حقّ؟
لكنه في تلك اللحظة، لم يكن واثقًا من أي شيء.
فتح دفتره، واستعاد فصولًا من حياته الأولى:
البصرة، حين كان في الخامسة والعشرين، يسير في أروقة المساجد بين مجالس العلماء…
هناك حيث سمع للمرة الأولى صوتًا داخليًا يقول له:
“كل هؤلاء العلماء… خائفون من الناس أكثر من الله.”
كان شابًا حادًا، لا يرضى أنصاف الحلول.
رأى أن التوحيد يُمتهن في حلقات الذكر، وأن البدعة تلبست بثياب الورع.
فقال لنفسه: «لن أكون واحدًا منهم.»
ثم تذكّر رحلته إلى الحجاز، حيث رأى كيف اختلط التصوف بالخرافة، وكيف امتلأت كتب العلم بالحواشي على الحواشي حتى ضاع المتن.
رأى رجلًا يطوف حول قبر فقيه، وآخر يقبّل حجرًا ويقول: «هذا حجر البركة.»
قالها حينها بصرامة لأحد المشايخ: – «هذا شرك، وهذا لا يرضي الله.»
فردّ الشيخ بهدوء: – «يا بني… ليس كل انحراف شركًا. بعضه جهل، وبعضه حب، وبعضه إرث.»
لكن محمد لم يكن يملك رفاهية التدرّج.
كان يرى أن الوقت ينفد، وأن الانحراف يزداد، وأن السكوت جريمة.
في تلك الليلة من ليالي الدرعية، بينما يستعيد تلك الوجوه والأماكن، تساءل:
– «هل كنتُ أبحث عن الحقيقة أم عن لحظة الانتصار؟»
– «هل أنا مُصلح، أم قاضٍ في معركة لم تنعقد؟»
– «ألم أكن أختار النصوص التي تُعزز موقفي، وأُقصي كل من يخالفني بحجة “سدّ الذرائع”؟»
فتح أحد كتبه القديمة، نسخة مشروحة من كتاب التوحيد.
قرأ فيه عنوان بابٍ من الأبواب:
«باب: من تبرّك بشجر أو حجر فقد أشرك»
تذكّر لحظة كتابته لهذا الباب، يوم كان غاضبًا من شيخٍ حجازي دافع عن التبرك بالحجر لأنه من آثار نبي.
شعر أن غضبه تسلّل إلى الحبر.
وشعر أن “العقيدة” بدأت تتقشّر في يده لتكشف عن جلدٍ آخر… جلد السلطة.
كان قد كتب في شرح الباب:
«فإن ظنّ ظانّ أن الله يرضى بأن يُتقرّب إليه بغير ما شرع، فقد جعل مع الله شريكًا في التشريع، وهذا هو الشرك الأكبر.»
لكنه الآن، أمام النار التي أشعلتها كلماته، بدأ يتساءل عن أولئك الناس البسطاء الذين لم يعرفوا كيف يفرّقون بين المحبّة والعبادة، ولا بين النية الطيبة والجهل بالدليل.
عاد يكتب في دفاتره الشخصية، هذه المرة بصيغة المتردد لا الحاسم:
«إن قلبي لا يطاوعني أن أكفّر رجلًا يقول لا إله إلا الله، ويصلّي، ويصوم، ثم يخطئ في موضع نية أو عادة قديمة…
لكن قلمي لا يطاوعني أن أترك البدعة تنتشر.
فمن يُرضي الله: قلبي أم قلمي؟»
ثم كتب تحته:
«هل من الممكن أن يكون الحبر نفسه فتنة؟»
لم يكن وحده في هذا الصراع.
كانت رسائل تُرسل له من الأحساء، من نجد، من مكة، من المدينة.
بعضها يثني على دعوته، وبعضها يطعن فيها.
لكن أكثرها كانت تسأله:
«هل حقًّا تُكفّر علماء الأمة؟»
وكان جوابه في العلن: «لا نكفّر إلا من ثبت شركه بالدلائل».
لكن في الحواشي، كان يكتب أسماء لعلماء وصوفية، ويُقسّمهم إلى:
من يُرجي أمره
من يجب الإنكار عليه
من لا تُقام له صلاة
بدأت هذه القوائم تتكاثر.
وفي كل مرة يُضيف فيها اسمًا، يشعر بأن حبره يسيل على الجمر، لا الورق.
وفي أحد المجالس، دخل عليه أحد تلاميذه المقرّبين، وقال: – «يا شيخ، لقد هاجمنا بعضهم وقالوا إنكم جعلتم أنفسكم حكّامًا على قلوب الناس!»
أجابه محمد بهدوء: – «نحن لا نحكم على القلوب، بل على الظاهر.»
لكنّ التلميذ قال: – «والظاهر… من الذي يراه؟ أليس نحن؟»
صمت محمد.
كانت المرآة تقترب، ولم يعُد فيها إلا صورته وسؤاله:
«ألم تصبح الدعوة، يوم أمس، سيفًا؟ وها هي اليوم محبرة فوق جمر؟
فمتى تصير ميزانًا؟ ومتى يبرد الجمر؟»
وفي ختام ليلته، وهو وحده مع الله، كتب:
> «يا رب، إن كنتُ قد أخطأت، فاغفر لي.
وإن كنتُ على صواب، فثبّتني،
وإن كانت دعوتي قد خلطت الحق بالدم،
فطهّرها من نار الفتن… أو خذني قبل أن أُضلّهم.»
ثم أطفأ شمعته،
وترك المحبرة تغلي على الجمر وحدها.
الأشباح في الحلقات:
في الصباح التالي، لم يكن الشيخ محمد قد غفا إلا سويعاتٍ معدودة.
كان صدى دعائه الأخير لا يزال يتردد في أركان الغرفة، والمحراب الصامت يُشبه شاهدًا على عاصفة لم تهدأ بعد.
حين طرق الباب أحد الخدم ليبلغه أن أحد العلماء الكبار وصل الدرعية طالبًا اللقاء، تردّد الشيخ لحظة.
منذ سنوات، كان يرحب بكل زائر يرى في دعوته تجديدًا.
أما الآن، فصار يستشعر في كل لقاء امتحانًا، وفي كل كلمة فخًا من فخوخ الضمير.
دخل عليه الضيف، شيخٌ حنفي من أهل الأحساء، مهاب الطلعة، هادئ الصوت، يُدعى الشيخ عبدالرزاق المهاجر.
جلس دون أن يطيل السلام، ثم قال بلهجة لا تُخفي ما بها من تحدٍّ مغموس بأدب:
«يا شيخ محمد، قرأت كتبك، وسمعت أقوالك، ورأيت آثار دعوتك. وأنا لست هنا لأناظرك، بل لأفهم. لماذا أُخرجنا من الإسلام ونحن فيه؟»
سكت محمد بن عبدالوهاب طويلًا.
أحسّ أن السؤال لم يكن يُراد به إجابة، بل اعتراف.
أجابه أخيرًا:
«ما كفّرنا أحدًا إلا من فعل ما يُوجب الكفر. ومن أقام البدع وأشرك بالله، فقد خرج عن دائرة الإسلام، وإن صلّى وصام.»
قال الشيخ عبدالرزاق:
«وهل التبرك بقبور الأولياء، أو التوسل بالنبي، شرك؟ وهل تُدرك أي ذاكرة دينية يعيشها الناس حين يفعلون ذلك؟ أليس من الفقه أن تُفرّق بين الشرك الأكبر، والشبهات، والخطأ في الفهم؟»
رفع محمد رأسه، وقال:
«الحق لا يُجزّأ. وما كان عليه النبي، يجب أن نعود إليه بلا رتوش ولا خرافة. كل ما لم يكن دينًا في عهد رسول الله، فليس دينًا اليوم.»
ابتسم الشيخ الزائر، وقال:
«لكنّ الناس ليسوا نسخًا من الصحابة، ولا تلامذة مدرسة واحدة. الدين ليس آلة. إنه روح. ومن فرّق بين الطقوس ونيّاتها، علم أن الله يحكم على القلوب، لا على الحركات.»
هنا، تساءل محمد في نفسه:
«هل أُغلق عليّ باب التأويل؟ هل صارت دعوتي تُعامل القلوب كما تُعامل الأصنام؟»
ثم ردّ بصوتٍ متماسك:
«والشرك لا ترفق فيه، وإلا عمّ وطمّ. وما وقع ما وقع في الأمة إلا حين سكت العلماء عن البدعة الأولى، فأورثتنا بدعًا لا تُحصى.»
قال الشيخ الزائر:
«لكن حين يصبح كل اجتهاد غير اجتهادكم بدعة، فمن يُنصّب أحدًا مفتاحًا للنجاة؟ ومن ذا الذي لا يخطئ في اجتهاده؟»
تلك الليلة، بعد أن غادر الضيف، جلس محمد إلى حلقة تلاميذه، لكن شيئًا تغيّر.
كان ينظر إليهم وهم يُحدّقون فيه بإجلال، ويرددون عباراته كأنها آيات.
لم يعد يرى فيهم طلبة علم، بل نسخًا من رأيه، ظلالًا لكلماته.
قال أحدهم:
«يا شيخ، هل نكتب أسماء من يترددون على القبور؟ نرفعها لك لتُقرّر حكمهم؟»
فقال آخر:
«لقد لاحظنا أن بعض النساء في السوق يذكرن أسماء مشايخ طُرقيين عند الرقية، أفلا يُعد هذا من الشرك؟»
تململ الشيخ محمد في مجلسه.
لم يكن هذا ما أراده.
أراد إصلاحًا، لا اصطفافًا.
أراد توحيدًا، لا تجسّسًا.
قال لهم:
«يا إخوتي، لا تستعجلوا في إصدار الأحكام. الشرك أمرٌ عظيم، لكن إثباته أعظم. من عذرًا تأوّل، ومن تأوّل لا يُحكم عليه بالكفر حتى تُقام عليه الحجة الواضحة.»
لكن أحد التلاميذ قال:
«ومتى تُقام عليه الحجة يا شيخ؟ وقد مضى على ضلاله سنوات؟ أما آن أن يُفصل في أمره؟»
شعر محمد كأنه فجّر في الناس غريزة الطرد أكثر مما أيقظ فيهم روح الإصلاح.
في الأيام التالية، تكاثرت الرسائل.
بعضها يطلب الفتوى في تكفير أشخاص بأسمائهم.
وبعضها يتضمن تبليغًا بأن جماعة كاملة من قرية كذا، لا يُقيمون الصلاة «بالنية الصافية» لأنهم يزورون قبرًا قديمًا في أطرافها.
ووصلته رسالة من تلميذ قديم يقول:
– «يا شيخ، لقد قرأتُ ما كتبته، فرأيتني أنا نفسي خارج الإسلام وفق مقياسك، فهل أُجدّد إسلامي؟ أم أترك العلم وأسكن القبور؟»
كان وقع الرسالة عليه كالسوط.
كتب في دفتره:
«يا رب… أأنا الذي خلطت بين الغيرة على التوحيد، والتسلّط باسم العقيدة؟
أأنا الذي فتحتُ الباب لشرعنة القسوة بدعوى الغيرة؟
وهل دعوتي، التي بدأت بنار الإصلاح، انتهت إلى جليد الإدانات؟»
جلس مساء ذلك اليوم مع الشيخ عبدالعزيز بن سعود، الحاكم الذي منح دعوته القوة والسيف.
قال له:
– «يا شيخ، كثُر كلام الناس، وبدأت القبائل ترتاب. البعض يقول إن دعوتكم تُفرّق الأمة، لا تجمعها.»
قال محمد بن عبدالوهاب:
– «وأنا أقول: لا تجتمع الأمة على ضلالة. نحن نُعيدها إلى أصلها، إلى توحيدٍ لا شائبة فيه.»
لكن صوتًا خافتًا في داخله قال له:
«وهل الأمة كلّها ضالة؟ وهل عرفتَ الحق وحدك؟»
قال ابن سعود:
– «الناس تخاف من التكفير يا شيخ. كل يوم يأتي إلينا وفد يطلب أن لا يُنعت بالكفر ولا تُغزى دياره. هل لك أن تخفّف من هذه اللهجة؟»
قال محمد:
– «ومن لم يُكفّر المشركين، فقد شكّ في كفرهم، ومن شكّ في كفرهم فهو كافر.»
سكت ابن سعود.
كانت الجملة نفسها قد قالها له قبل سنوات، لكنها الآن كانت كالرصاص.
في قلب السياسة، لا يوجد ما هو أخطر من التكفير بالجملة.
عاد محمد إلى غرفته.
مرّ بيده على كتبه، فرأى ما لم يكن يراه من قبل.
كل كتاب كان أشبه بطعنة في قلب التسامح.
كل حاشية كتبها على الهامش، كانت إقصاءً لا إضاءة.
جلس ليلًا يكتب:
«أخشى أن تكون دعوتي قد أيقظت في الناس نزعة الاجتثاث، لا نزعة التزكية.
لم أُرِد لهم أن يُفتّشوا في صدور الناس عن الكفر، بل في صدورهم عن التوحيد.
لكنهم فتّشوا… وأخرجوا قوائم، لا قلوبًا.»
ثم كتب في آخر الصفحة:
«أين ذهبت الرحمة التي وُلد بها هذا الدين؟
هل دفنّاها في حلقات الحديث؟
أم غطّاها صليل السيوف؟»
أطفأ شمعته.
ولم يغلق دفتره.
تركه مفتوحًا، كأن فيه اعترافًا مؤجّلًا…
أو توبة لم تنضج بعد.