خطبة بعنوان “وكن رجلًا إن أتوا بعده .. يقولون: مَـرَّ، وهذا الأثر” للدكتور مسعد الشايب

“وكن رجلًا إن أتوا بعده * يقولون: مَـرَّ، وهذا الأثر”
من سمات الشخصية المسلمة في الشريعة الإسلامية

 للدكتور : مسعد الشايب
عضو الأمانة العامة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف المصرية

 

25من ربيع الأول 1444هـ الموافق 21من أكتوبر 2022م
20 من ربيع الأول 1447هـ الموافق 12 من سبتمبر 2025 م

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه
kon ragola

أولا: العناصر:

  1. اهتمام الشريعة الإسلامية وإرشادها إلى بناء الشخصية المستقلة.

  2. من أهم سمات وميزات الشخصية المسلمة.

  3. (الخطبة الثانية): الأساس في بناء الشخصية المسلمة وسماتها.

ثانيا: الموضوع:

الحمد لله رب العالمين، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وسفيره بينه وبين عباده، المبعوث بالدين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجةً على الخلائق أجمعين، اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَيه، وعلَى آلِهِ وصحبِهِ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ، وبعد: 

أيها الأحبة الكرام: فقد اهتمت الشريعة الإسلامية ببناء الانسان قبل البنيان، وأعلت بناء الساجد على بناء المساجد، حيث كان الفرد والمجتمع والإنسانية محور اهتمامها، والمقصودون بتوجيهاتها وتشريعاتها، ومن هنا قدم العلماء حفظ النفس على حفظ الدين، فبدون النفس لا يكون الدين، وبدون المحافظة على النفس وتوفير الأمن والأمان لها؛ لا تستطيع أن تقوم بشعائر وتعاليم الدين، فتعالوا بنا أحبتي في الله في لقاء الجمعة الطيب المبارك؛ لنرى كيف أهتمت الشريعة الإسلامية ببناء الشخصية المسلمة المستقلة، ونرى أهم السمات والمميزات التي تتمتع بها الشخصية المسلمة، فأعيروني يا عباد الله القلوب واصغوا إليّ بالآذان والأسماع فأقول وبالله التوفيق:

  • ((اهتمام الشريعة الإسلامية وإرشادها إلى بناء الشخصية المستقلة))

لقد أشار القرآن الكريم في العديد من آياته وأرشد إلى استقلالية شخصية الأمة المسلمة وأفرادها عن بقية الأمم والجماعات، فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول الحق تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110]، مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ (أي: تكملون وتوفون) سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ)(رواه الترمذي)، وبعيدًا عن المبالغة، ودفعًا لفهمٍ غيرَ مرادٍ، وتدقيقًا للقول أقول: إن خيرية الأمة ليست خيرية مطلقة، وإنما هي خيرية مشروطة بشروط إذا تحققت تلك الشروط، وأخذت بها أمتنا الإسلامية كانت خيرَ أمةٍ أخرجت للناس.

فلو تأملنا في تلك الآية المباركة لوجدنا أن الحق تبارك وتعالى جمع لنا شروط الخيرية واختصرها في شرطين لا ثالث لهما، هما الإيمان بالله (عزّ وجلّ) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فشروط تحقق الخيرية هي الإيمان بالله (عزّ وجلّ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن الآيات القرآنية العظيمة التي أشارت إلى شخصية الأمة واستقلالها عن غيرها، قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143]، والأخذ بالوسطية له مظاهر متعددة ومتنوعة، منها:

  • الموازنة بين مطالب الروح ومطالب الجسد، فالإسلام جاء وسطًا بين مادية اليهود الجسدية ورهبانية النصارى الروحية، انظروا إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص ـ وقد علم أنه يصوم النهار ولا يفطر، ويقوم الليل بالقرآن كله ولا يرقد: (فَلاَ تَفْعَلْ صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا)(اللفظ للبخاري)، وعن أنس بن مالك (رضي الله عنه)، قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (قيل: هم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعثمان بن مظعون (رضي الله عنهم)، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها (عدوها قليلة)، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)(اللفظ للبخاري)،

  • ومنها: العمل للدنيا كما هو العمل للأخرة، قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:77]، وقال تعالى على لسان نبيه صالح (عليه السلام): {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61]، فعملك في تجارتك، في مصنعك، في حقلك…عبادة، وعمارة للأرض المهم ألا تنسيك الدنيا، والعملُ لها ربَّ العزة تبارك وتعالى وأمور الأخرة.

  • ومنها: الترشيد في الاستهلاك بدون إسراف أو تبذير، أو تقتير، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67]، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}[الإسراء:28]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ)(متفق عليه)، (معى) جمع أمعاء وهي المصارين. (سبعة أمعاء) كناية عن الشره والرغبة في متاع الدنيا وملذاتها والحرص على التشبع من شهواتها التي من جملتها تنوع المآكل والمشارب والامتلاء منها، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)(متفق عليه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ)(رواه النسائي).

  • ومنها: التوسط في أداء الطاعات والعبادات بدون إفراطٍ أو تفريط، قال صلى الله عليه وسلم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ)(رواه أحمد)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ)(رواه البخاري).

فهكذا ينبغي أن يكون المسلم وسطيًا في كل أمور حياته بعيدًا عن الغلو والتشدد، والإفراط والتفريط، بعيدًا عن الإسراف والتبذير، والبخل والتقتير…وهكذا.

وكما أشار القرآن وأرشد إلى الشخصية المسلمة المستقلة؛ كذلك جاءت السنة النبوية المطهرة، ودعت في كثير من أحاديثها إلى ضرورة استقلال المسلم وتميزه في كل أمور حياته وعدم تبعيته إلا لشرائع دينه:

فقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم عمومًا من التشبه بغير المؤمنين فيما ليس بخير، فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)(رواه أبو داود وأحمد).

(وكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ المسلمون ناقوسًا كناقوس النصارى، أو بوقًا كبوق اليهود، أو يوقدوا نارًا للإعلام بدخول وقت الصلاة وأمر بلالًا أن يناديَ بالصلاة)(متفق عليه).

وحينما علم صلى الله عليه وسلم بتعظيم اليهود والنصارى للعاشر من المحرم (عاشوراء)؛ أراد مخالفتهم فقال: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ)(رواه مسلم).

وعن سيدنا أنس بن مالك (رضي الله عنه)، أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوهنّ في البيوت فسأل الصحابة (رضي الله عنهم) النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة:222]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ). فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه)(رواه مسلم).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ)(متفق عليه)، (لا يصبغون) لا يغيرون لون الشيب. (فخالفوهم) بصبغ شعر الرأس واللحية ولكن بغير السواد.

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: (نَهَى النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مُخْتَصِرًا)(رواه البخاري)، أي: يده على وسطه تحت الأضلاع وفوق الورك، وذلك لأن اليهود كانت تفعله.

فالمسلم الحق الصادق في إيمانه ينبغي أن يكون مستقلًا في كل شيء في عباداته وطاعاته، ومظهره ومخبره، وسلوكه وعادته…الخ، له سماته الظاهرة، وصفاته اللازمة، ومميزاته التي تفرقه عن غيره عمومًا، من هذه السمات والميزات:

  • ((ستٌ من أهم سمات وميزات الشخصية المسلمة))

1ـ السلام الكوني مع جميع البشر والمخلوقات، وهذا أهم ما يتميز به المسلم، وقلّ أن تجده في المجتمعات الغير مسلمة، فالمسلم يعيش في سلام كوني مع نفسه ومع الأخرين، لا يؤذي أحدًا، ولا يتسبب في إيذائه، والسلام الكوني يتلخص في أمرين: (أولهما): إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فذلك أدعى لقطع النزاعات، ونشر السلام، والشدّ من أواصر الألفة والمحبة بين الأفراد والمجتمعات والأوطان، والأمم، قال سيدنا سلمان الفارسي لسيدنا أبي الدرداء (رضي الله عنهما): (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ). قال النبي صلى الله عليه وسلم معقبًا على ذلك: (صَدَقَ سَلْمَانُ)(رواه البخاري).

(ثانيهما): محبة الخير للغير، والسعي له، وبغض الشرّ، والكفّ عنه، قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ)(رواه ابن ماجه).

ومنها: الصدق مع الناس عمومًا، مع الكبير والصغير، مع الذكر والأنثى، مع الغني والفقير، مع القريب والبعيد، مع الحاكم والمحكوم، مع المسلم وغير المسلم…وهكذا، والصدق من أهم ما يتميز به المسلم أيضًا؛ لأنه حقيقة الإسلام مصداقًا لقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177].

وقال صلى الله عليه وسلم: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)(اللفظ لمسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ)(رواه أحمد).

3ـ ومنها: الإيجابية التي تعني: التفاعل والتجاوب والعطاء والمشاركة والمساهمة الفعالة في قضايا المجتمع، وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى التحلي بالإيجابية في قصة ذي القرنين، فقال تعالى: {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا* قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا* آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا*فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}[الكهف:94ـ97].

تلك الإيجابية التي كان يتحلى بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة تجاه مجتمعه وبيئته ووطنه، فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو في الخامسة عشر من عمره ـ حلف الفضول الذي تداعت إليه قبائل قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان التيمي لسنه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى يُرد إليه حقه، قال صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيَ بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)(السنن الكبرى للبيهقي)، وفي الخامسة والثلاثين من عمره صلى الله عليه وسلم شارك قريشًا تجديد بناء الكعبة بحمل الحجارة على كتفيه، وقضى على الخلاف الذي نشأ بين قريش بسبب الاختلاف على من يتولى وضع الحجر الأسود مكانه. (السيرة النبوية)، وها السيدة خديجة (رضي الله عنها) تشهد على إيجابية المصطفى صلى الله عليه وسلم تجاه بيئته، ومجتمعه، ووطنه، فحينما قال لها: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي). فقالت له: (كَلَّا، أَبْشِرْ فَوَ اللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ)(متفق عليه)، فالشخص الإيجابي: هو الذي يتفاعل مع قضايا مجتمعه ووطنه، ويتأثر بمحيطه، ويؤثر فيه، واستصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد بعثته دليلٌ على أن تلك الإيجابية من أهم سمات وميزات المرء المسلم.

ومنها: الجهر بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالسكوت عن الحق، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدى إليه ضعف الإيمان، وقلة الوازع الديني، وعدم الخوف من الله، وعدم استشعار مراقبته، وعدم الشفقة على الناس، وانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة، والحرص الشديد على تحصيل الدنيا والخوف عليها…الخ، ومن مظاهره: شيوع الفواحش والمنكرات، والطعن في الثوابت والمسلمات الدينية، وعدم سياسة الدنيا بالدين، والتضييق على الناس…الخ، وقد أمرنا الحق تبارك وتعالى بالجهر بالحق والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعله من أخص خصائص الأمة أجمع، فقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104].

وكذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فعن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ؛ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ)(رواه الترمذي)، وعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه)، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ)(رواه مسلم).

5ـ ومنها: الإيثار، وهو: تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية، رغبةً في رضا ربّ البرية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتأكيد المحبة، والصبر على المشقة. فالإيثار لا ينبع إلّا من إيمان قوي بالله، وثقةٍ في ما عنده، واعتمادٍ وتوكلٍ عليه، الأمر الذي يدفع المتخلقين به إلى تحمل اللوم، وترك ديارهم، وأموالهم، بل والتضحية بأنفسهم ابتغاء لمرضاة الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]، فهو دليل على الجود، والسخاء، وعظم النفس، وزهدها في الحياة الدنيا.

والإيثار من أعظم أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر على نفسه قبل البعثة وبعدها بكل ما ملكت يداه، فعن عائشة (رضي الله عنها) قالت: (لَوْ شِئْنَا أَنْ نَشْبَعَ شَبِعْنَا، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ)(شعب الإيمان).

ولقد بلغ من إيثار النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه إذ لم يجد شيئًا يجود به أمر السائل أن يقترض وتكفل بالسداد، فعن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: (مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَ، وَلَكِنِ اسْتَقْرِضْ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ فَنُعْطِيَكَ). فقال عمر (رضي الله عنه): ما كلفك الله هذا، أعطيتَ ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف. قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر (رضي الله عنه) حتى عُرِف في وجهه فقال الرجل: يا رسول الله بأبي وأمي أنت، فأعط ولا تخش من ذي العرش إقلالا، قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بِهَذَا أُمِرْتُ)(مسند البزّار).

6ـ التضحية بأنواعها، بالنفس والمال، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، وبالوقت والجُهد؛ لتعليم الناس، أو لقضاء حوائجهم، أو للصلح بينهم، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114]، وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال : (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا, وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ـ يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ ـ شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ)(رواه الطبراني في الكبير)، والتضحية بالعلاقات الاجتماعية في مرضات الله، ومرضات رسوله، قال تعالي: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22]، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عزم على قصدهم. (زاد المسير)، ولنا في قصة مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة لكعب بن مالك درس وعبرة.

عباد الله: البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والدّيّان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.

 (الخطبة الثانية)

((الأساس في بناء الشخصية المسلمة وسماتها))

الحمد لله رب العالمين، أعدّ لمَنْ أطاعه جنات النعيم، وسعرّ لمَنْ عصاه نار الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

أيها الأحبة الكرام: عشنا مع اهتمام الشريعة الإسلامية، وإرشادها إلى بناء الشخصية المستقلة، وأهم سماتها وميزاتها، بقي لنا في تلك الجمعة المباركة أن نتعرف على الأساس في بناء الشخصية المسلمة، وسماتها، فأقول، وبالله التوفيق:

الأساس في بناء الشخصية المسلمة، وأهم مرحلة من مراحلها هو الإيمان بالله (عزّ وجلّ) وتحقيقه، والإيمان بالله (عزّ وجلّ) يعني أن تعتقد أنه سبحانه وتعالى، واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، قال تعالى مخاطبًا النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضًا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[سورة الإخلاص]، فالله (عزّ وجلّ) واحدٌ في ذاته، فليس هناك ذاتٌ تشبه ذاته، وذاته سبحانه وتعالى لا تقبل الانقسام، وليست مكونة من أعضاء وجوارح كأجسامنا، وهذا أحد معاني كلمة (الصمد) أي: الذي لا جوف له ولا أمعاء، كما أنه سبحانه وتعالى واحدٌ في صفاته وأفعاله فلا تعدد فيها من جنسٍ واحدٍ، فلا قدرتان له سبحانه وتعالى مثلًا، ولا تشبه أفعال وصفات المخلوقين أفعالَه وصفاته سبحانه وتعالى، فرحمتنا ليست كرحمته وقدرتنا ليست كقدرته سبحانه وتعالى…إلخ، كما أن صفاته وأفعاله لا تقبل ولا يدخلها الاشتراك، فليس هناك شريك لله، فلا فعل لغيره، ولا خلق لغيره سبحانه وتعالى؛ وإن نسب لغيره كسبًا، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى:11].

كما أن من تحقيق الإيمان الاعتقاد بأنه سبحانه وتعالى لا يفتقر ولا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه، بل الخلائق هي التي تحتاج إليه سبحانه وتعالى، وهذا هو المعنى الثاني من معاني كلمة (الصمد) أي: السيد الذي (يصمد) يحتاج إليه الناس ولا يحتاج هو إليهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:15].

كما أن من تحقيق الإيمان بالله (عزّ وجلّ) أن نفرده سبحانه وتعالى بالعبادة وحده، ونتوجه بها خالصة له بدون إشراكٍ لغيره فيها، وبدون سمعة أو رياء أو مفاخرة أو مباهاة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[التوبة:31]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}[البينة:5] أي: الملة المستقيمة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ)(رواه ابن ماجه)، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ)(متفق عليه)، (سمّع) شهّر بنفسه وأذاع ذكره. وقيل: عمل عملًا على غير إخلاص يريد أن يراه الناس ويسمعوه. (سمّع الله به) كشفه على حقيقته وفضح أمره. (يرائي) يطلع الناس على عمله بقصد الثناء منهم. (يرائي الله به) يطلع الناس على حقيقته وأنه لا يعمل لوجه الله تعالى فيذمه الناس مع استحقاق سخط الله تعالى عليه.

 كما أن من تحقيق الإيمان بالله (عزّ وجلّ) الرضى بتدبير الله مهما كان لنا، وهو ما يعرف بالإيمان بالقضاء والقدر، ففي الحديث المشهور بحديث جبريل سأل جبريل (عليه السلام) النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)(رواه الترمذي).

فتحقيق الإيمان بالله (عزّ وجل) يعني وصفه سبحانه وتعالى بصفات الجلال والكمال والجمال، مع الاعتقاد بأنه لا يشبهه أحدًا من خلقه، ولا يحتاج منهم شيئًا، مع إفراده سبحانه وتعالى بالعبادة والتوجه له والرغبة إليه، قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ*وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}[الشرح:8،7]، مع الرضا بتدبيره لنا مهما كان.

فاللهمّ أرنا الحق حقا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا، وارزقنا اجتنابه، اللهمّ علمنا من لدنك علما نصير به عاملين، وشفّع فينا سيّد الأنبياء والمرسلين، واكتبنا من الذاكرين، ولا تجعلنا من الغافلين ولا من المحرومين، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النّعيم اللهمّ آمين، اللهمّ آمين.