حضانة الأم غير المسلمة (الذمية وغير الكتابية)

بقلم الدكتور : محمد فهمي رشاد
مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا

مما لا شك فيه أن الحضانة تثبت للنساء أولًا، ولا يوجد خلاف ظاهر بين الفقهاء في ذلك.
حاشية ابن عابدين 5/272، تبيين الحقائق 3/49، حاشية الدسوقي 2/528، حاشية الصاوي على الشرح الصغير 2/758، التنبيه 3/165-166، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 3/451، الكافي فقه أحمد 3/381-382، شرح الزركشي على مختصر الخرقي 6/36.

لما تمتاز به النساء من شفقة ورفق وغيرهما، فهي تستطيع في هذه المرحلة تقديم ما يحتاجه المحضون من أمور حياتية، سواء أكان مأكلًا أو ملبسًا أو غيرهما، إلا أن الفقهاء اختلفوا في جواز حضانة الأم الذمية.

اختلف الفقهاء في جواز حضانة الأم غير المسلمة (الذمية وغير الكتابية) إلى قولين، وهي:

القول الأول: عدم اشتراط إسلام الحاضنة، فيصح حضانة الأم غير المسلمة سواء كانت ذمية أو غيرها، ما لم يعقل المحضون الأديان ويألف الكفر، لكن بعد أن يعقل يرجع إلى المسلم حفاظًا عليه؛ لأنها تعلّمه الكفر، فلا يؤمَن من الفتنة إذا تُرك عندها، فلهذا يُؤخذ منها، ويُشترط عدم الخوف منها على المحضون، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.
المبسوط 5/210، تحفة الفقهاء 2/231، الهداية شرح بداية المبتدئ 2/284، متن البداية للمرغياني ص100، البحر الرائق 4/186، شرح مختصر الطحاوي 5/326، الكافي في فقه أهل المدينة 2/627، شرح مختصر خليل 4/212.

وحجتهم في ذلك ما يلي:
1- عن «رافع بن سنان – رضي الله عنه – أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فأقعد النبي ﷺ الأم في ناحية، والأب في ناحية، وأقعد الصبي بينهما فمال إلى أمه، فقال: اللهم اهده، فمال إلى أبيه فأخذه». رواه أحمد في المسند (23757)، وأبو داود (2244) وهذا لفظهما، والنسائي (3495) بلفظ: الصبي.

قال الصنعاني: “وفي الحديث دليل على ثبوت حق الحضانة للأم غير المسلمة وإن كان الولد مسلمًا، إذ لو لم يكن لها حق لم يقعده النبي ﷺ بينهما، وإلى هذا ذهب أهل الرأي والثوري”. سبل السلام (2/333).

قال الشوكاني: “واستُدل بحديث عبد الحميد المذكور على ثبوت الحضانة للأم غير المسلمة؛ لأن التخيير دليل ثبوت الحق، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، وابن القاسم، وأبو ثور”. نيل الأوطار (6/392).

وقالوا: “لأن الحضانة لأمرين: الرضاع وخدمة الطفل، وكلاهما يجوز من غير المسلمة”. زاد المعاد في هدي خير العباد (5/411).

وتُعقّب هذا الاستدلال:
أولًا: بأن الحديث لا يصح.
قال ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل. وفي إسناده مقال، وذلك لأنه من رواية عبد الحميد بن جعفر بن رافع، ضعّفه الثوري ويحيى بن معين. المغني لابن قدامة 8/238، البدر التمام شرح بلوغ المرام (8/345)، سبل السلام (2/332)، نيل الأوطار (6/392).

قال الصنعاني: “وحديث رافع قد عُرفت عدم انتهاضه، وعلى القول بصحته فهو منسوخ بالآيات القرآنية”. سبل السلام (2/333).

قال ابن حزم: “هذا خبر لم يصح قط؛ لأن الرواة له اختلفوا، فقال عثمان البَتّي: عبد الحميد الأنصاري عن أبيه عن جده، وقال مرة أخرى: عبد الحميد بن يزيد بن سلمة عن أبيه عن جده. وقال عيسى: عبد الحميد بن جعفر أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان. وكل هؤلاء مجهولون”. المحلّى (10/151).

قال ابن القيم: “هذا الحديث من رواية عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري الأوسي، وقد ضعّفه إمام العلل يحيى بن سعيد القطان، وكان سفيان الثوري يحمل عليه، وضعّف ابن المنذر الحديث، وضعّفه غيره، وقد اضطرب في القصة، فرُوي أن المخيَّر كان بنتًا، ورُوي أنه كان ابنًا. وقال الشيخ في المغني: وأما الحديث فقد رُوي على غير هذا الوجه، ولا يثبته أهل النقل، وفي إسناده مقال، قاله ابن المنذر”. زاد المعاد في هدي خير العباد (5/411).

ثانيًا: على فرض صحته ليس فيه حجة لهم، بل عليهم.
بيّن ابن القيم أنه على فرض صحة الحديث فهو حجة عليهم لا لهم، فقال: “ثم إن الحديث قد يُحتج به على صحة مذهب من اشترط الإسلام، فإن الصبية لما مالت إلى أمها دعا النبي ﷺ لها بالهداية، فمالت إلى أبيها، وهذا يدل على أن كونها مع غير المسلم خلاف هدى الله الذي أراده من عباده، ولو استقر جعلها مع أمها، لكان فيه حجة، بل أبطله الله سبحانه بدعوة رسوله…”. زاد المعاد في هدي خير العباد (5/411)، البدر التمام شرح بلوغ المرام (8/345).

ثالثًا: احتج الاصطخري من أصحابنا بهذا الحديث على أنه يثبت للكافرة حق الحضانة، وأجاب غيره من الأصحاب عنه بأنه منسوخ، أو محمول على أن النبي ﷺ عرف أنه يُستجاب دعاؤه، وأنه يختار الأب المسلم. وقصده بالتخيير استمالة قلب الأم. كذا نقله الرافعي عنهم، وهو أولى من قول ابن الصباغ والماوردي. وتبعهما صاحب المطلب، فقال: إنه حديث ضعيف عند أهل الحديث. وادعى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي نسخه بإجماع الأمة على أنه لا يُسلّم إلى غير المسلم… البدر المنير (8/322).

وقال الماوردي: ولو صح لكان الجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن المقصود بالتخيير ظهور المعجزة باستجابة دعوته.
الثاني: أن الطفل كان فطيمًا، ومثله لا يُخيَّر.
الثالث: أن النبي ﷺ دعا بهدايتها إلى مستحق كفالته، وهو الأب لثبوت إسلامه بإسلام أبيه. الحاوي الكبير (11/503).

2- أن حق الحضانة للأم بسبب ما تمتاز به من الشفقة على الولد، ولا يختلف ذلك باختلاف الدين، فقد قيل: “كل شيء يحب ولده حتى الحبار”. العناية شرح الهداية 4/372، النيابة شرح الهداية 5/651، درر الحكام شرح غرر الأحكام 1/411، جمع الأنهر 1/171، البحر الرائق 4/185، رد المحتار على الدر المختار 3/566.

3- ولأنه عند تعقله يتعود أخلاق الكفرة، وفيه ضرر عليه. الهداية في شرح بداية المبتدئ 2/284، العناية شرح الهداية 4/372، درر الحكام 1/411.

القول الثاني: اشتراط إسلام الحاضنة، فلا تصح حضانة الذمية ولا غير الكتابية، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. روضة الطالبين 9/99، كفاية التنبيه 15/295، كفاية الأخيار ص448.

ودليلهم في ذلك:
1- قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141].
2- عن رافع بن سنان – رضي الله عنه – أنه أسلم وأبت امرأته أن تُسلم، فأقعد النبي ﷺ الأم ناحية، والأب ناحية، وأقعد الصبية بينهما، فمالت إلى أمها، فقال: اللهم اهدها، فمالت إلى أبيها فأخذها. سبق تخريجه.

3- لأن ضررها عظيم، ولأنها تفتنه عن دينه، وتخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتربيته عليه، وفي ذلك كله ضرر. وقد قال رسول الله ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه…». أخرجه البخاري (1385) ومسلم (2658).

4- أن الحضانة جُعلت لحظ الولد، ولا حظ للولد المسلم في حضانته غير المسلم؛ لأنه يفتنه عن دينه، وذلك من أعظم الضرر، والأمة أجمعت على أنه لا يُسلّم الصبي المسلم إلى غير المسلم. وإذا أسلمت غير المسلمة وحسن حالها ثبت لها حق الحضانة. الضرر البهية 4/402، نهاية المحتاج 7/229، فتوحات الوهاب 4/520، تحفة الحبيب على شرح الخطيب 4/111.

5- وذكر أبو بكر الحص
ني: “إن كان الطفل مسلمًا بإسلام أبيه فلا حضانة لغير مسلمة على مسلم، لأنه لا حظ له في تربيتها، لأنها تغشّه وينشأ على ما كان بألف منها، ولأنه لا ولاية لغير مسلم على مسلم”. كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار 1/448.

الخلاصة:
من خلال ما سبق يتضح أن الحنفية يرون حق الحضانة للأم سواء كانت مسلمة أم غير مسلمة، ودليلهم في ذلك عقلي، وهو أن الحضانة مبنية على الشفقة، وأنه لا أثر لاختلاف الدين فيها إلى أن يعقل الطفل، فهنا يُرد على الحاضن المسلم حفاظًا على تنشئته.

أما المالكية فإنهم يرون حق الحضانة للأم دون النظر إلى دينها، بشرط ألا يُخاف منها أن تسقي ولدها خمرًا أو تطعمه محرّمًا. وفي هذه الحالة لم تُنزع حضانتها، وإنما “تضم لناس مسلمين”.

أما الشافعية والحنابلة فيمنعون حضانة الأم غير المسلمة على ولدها من أب مسلم.

الرأي الراجح:
أُرَجّح ما ذهب إليه الحنفية والمالكية من حق الأم غير المسلمة في حضانة ولدها من أب مسلم، بشرط ألا يُخاف عليه الكفر أو أن تسقيه أو تطعمه محرّمًا، إلى أن يعقل الأديان، فيسقط حقها في الحضانة وتنتقل الحضانة إلى أبيه. وذلك لأن الشفقة الباعثة على قيام الأم بشؤون ولدها لا تختلف باختلاف الدين. والله أعلم.

وقد ذكر الشوكاني أمرًا مهمًا في بيان ترتّب المصالح في مثل هذه المسألة، فقال: “واعلم أنه ينبغي قبل التخيير والاستهام ملاحظة ما فيه مصلحة للصبي، فإذا كان أحد الأبوين أصلح للصبي من الآخر قُدّم عليه من غير قرعة ولا تخيير، هكذا قال ابن القيم، واستدل على ذلك بأدلة عامة نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6]…”. نيل الأوطار (6/393).