دور فقه المقاصد في إرساء الإنجاز الحضاري في واقع اليوم


سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر

بقلم الأستاذ : مهدى صالحى

يمثل التجديد مطلبا إسلاميا شرعيا تؤسسه نصوص الوحي للنهوض بالأزمات التي تواجه الواقع الراهن قصد تجاوز الركود الفكري والحضاري جرّاء تداعيات الهيمنة الثقافية الغربية التي أضحت بمثابة الجهاز العصبي داخل الخصوصية العربية الإسلامية بما أنّ العقل الحداثي الغربي اليوم يفرض رهانات متطورة كالذكاء الاصطناعي والخوارزميات وطائرات من غير طيّار وشبكات سيبرانية وموجات أقمار صناعية…ممّا يشكّل عائقا موضوعيا أمام كل صحوة إسلامية ذات بعد حضاري .

حيث تفشت أنماط مشوّهة تتعارض مع مقاصد فطرة التكوين الإنساني ومقاصد التشريع معا مثل:”الجمود الفقهي،النفاق السياسي،الغش في الأقوال والمعاملات ،التديّن الشكلي،التكالب على الاستهلاك،الإدمان الرقمي اللاواعي،التواكل والتمنّي،النرجسية والادّعاء بامتلاك الحق والحقيقة…”.

وعلى هذا الأساس فإنّ فقه المقاصد كفيل بتفعيل نصوص الوحي ضمانا للمصالح العامة والخاصة ولدرء هذه الأضرار والمفاسد عن الواقع اليوم ولضبط المسار الإصلاحي ذلك لأنّ التجديد لايتمّ إلا في ظل تنزيل المقاصد بما أنّ المقاربة المقاصدية التجديدية هي تلك الجدلية التي توازن بين متطلبات الواقع وسياقات النصّ،يقول تعالى:وماخلقت الجن والإنس إلاّليعبدون”.فهذا تعليل مقاصدي يؤكد على المهمّة المُوكَلَة على عاتق كلّ مكلَّف وهي الاضطلاع بمختلف اتجاهات العبادة (الاتجاه الشعائري، الاتجاه الكوني، الاتجاه العلمي، الاتجاه الاجتماعي) لبلوغ التقدم الحضاري المفقود .قال علي بن أبي طالب :”من أمضى يومه في غير حقّ يقضيه أو فرض يؤديه أوعلم يقتبسه أومجد يؤسسه فقد أضاع ذلك اليوم.”

وإذاكانت هذه القيم الحضارية التنويرية من صميم مقاصد الشريعة والعقيدة معا فإن الحضارة الغربية اليوم زاخرة بهذه القيم وبكلّ أسباب النهضة والتطور ومرجع ذلك هو الوعي الغربي العقلاني بضرورة استثمار الطاقات الفكرية والعلمية والتجارب الهادفة مهما كانت نتيجتها . في مقابل الواقع العربي الإسلامي الراهن الذي احتدم فيه الصراع الفكري وإقصاء مبدأ الاختلاف الفقهي المذهبي إلى حدّ تحوّله إلى حقد إيديولوجي ناجم عن الانحياز للأنا والتعصب للرأي الأوْحد-الذي يحجب عن رؤية الحق-وعدم الوقوف عند نسبية المقاربات وقد أقرّ الإمام الشافعي:”رأيي صحيح يحتمل الخطأ،ورأي غيري خطأ يحتمل الصحّة”

ومن تبعات الصدام الإيديولوجي داخل المنظومة الفكرية الإسلامية إحداث فجوة واسعة بين المقاصد والواقع حتى ظلّ الموروث الفقهي مجرّد تنظير علمي فكري لم يقدّم بدائل عملية لهذه الأزمات الحادثة وهذا عائق داخلي أمام كل إنجاز حضاري وهو مايثير سؤالا جوهريا:” بــم تُقاس نجاعة أيّ علم بصرف النظر عن كونه دينيا شرعيا أوماديا دنيويا؟

إن نجاعة أيّ علم تكمن في قدرته على تلبية الحاجيات الإنسانية المتجدّدة بما يتلاءم مع العوائد والأعراف ومراعاة هذا الاعتبار أمر معتبرٌ شرعا .أمّا التجديد الذي يتحقّق في ضوء المقاصد فيتمثّل في مايؤكّد عليه مالك بن نبي:إذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ،وإذا سكن سكن المجتمع والتاريخ”.وهذا التصور يتناسق مع قوله تعالى:”إنّ الله لايغيّر مابقوم حتّى يغيّروا مابأنفسهم”(الرعد11)