كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب بين التدليس والتكفير

بقلم : محمد نجيب نبهان
كاتب وناقد و باحث تاريخي 

منذ القرن الثامن عشر، حين خرج محمد بن عبدالوهاب النجدي بكتابه التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، صار هذا الكتاب عند أتباع الوهابية دستورًا عقائديًا، ومفتاحًا لدعوتهم، حتى رفعوه إلى منزلة تضاهي كتب الإسلام الكبرى. لكن عند التحقيق والتمحيص يظهر لنا أن هذا الكتاب ليس كتاب توحيد كما يزعم أصحابه، بل هو كتاب تدليس وتكفير، يقوم على نصوص منتزعة من سياقها، وأحاديث ضعيفة وموضوعة، وزيادات لا أصل لها، بل يصل الأمر إلى الطعن في عصمة الأنبياء.

أولًا: شهادة الأخ الأقرب – نزع الأهلية

يبدأ النقد من شهادة الشيخ سليمان بن عبدالوهاب، شقيق المؤلف، الذي قال: “أخي محمد ليس أهلًا للاجتهاد، بل لم يبلغ عشر الأهلية”. وهذه شهادة عالم يعرف دقائق أخيه. فهي ليست صادرة عن خصم بعيد أو مخالف مذهبي، بل عن رجل من بيئته وأسرته. وهذه الكلمة تكشف بوضوح أن المؤلف لم يكن متبحرًا في علوم الحديث ولا الفقه، وإنما شهرته قامت على دعوته التي غذّاها التكفير، لا على علم راسخ.

ثانيًا: باب “فلما آتاهما صالحًا” – اتهام الأنبياء بالشرك

من أخطر ما في الكتاب باب تفسير قوله تعالى: فلما آتاهما صالحًا جعلا له شركاء فيما آتاهما. فقد نسب ابن عبدالوهاب إلى آدم وحواء عليهما السلام أنهما سمّيا ابنهما “عبد الحارث” بإغواء إبليس، وأن هذا شرك.

هذه الرواية ساقطة:

ابن كثير قال: “هذه الآثار متلقاة عن أهل الكتاب”.

ابن حزم قال: “خرافة موضوعة مكذوبة”.

القرطبي قال: “لا يعوّل عليها من كان له قلب”.

ومع هذا تمسّك بها المؤلف. ثم جاء حفيده عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في فتح المجيد فاطلع على تعليلات ابن كثير، وردّها جميعًا قائلا: “وهذا بعيد جدًا”! فصار الدفاع عن الجد أولى عنده من الدفاع عن مقام النبوة. هنا يظهر الانحراف المنهجي الذي يبرر الطعن في الأنبياء مقابل تبرئة الشيخ.

ثالثًا: أوهام الحديث وزيادة الألفاظ

من أمثلة اضطراب المؤلف:

في حديث مسلم عن طي السماوات والأرض يوم القيامة، زاد كلمة “السبع” بعد الأرضين، وهي ليست في النص. هذه زيادة تكشف ضعف التحقيق.

استدل بحديث أبي ذر: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد في فلاة. حكم الأرناؤوط بأنه ضعيف جدًا.

استشهد برواية هل تدرون كم بين السماء والأرض، وفي سندها كذابون كـيحيى بن العلاء، الذي قال فيه أحمد: “كذاب يضع الحديث”، وقال البخاري: “متروك”. ومع ذلك نسبها إلى أبي داود، خطأً، بينما لم يخرجه إلا أحمد.

هذه الأخطاء ليست هينة، فهي تدل على أن المؤلف لم يكن محققًا ولا ناقدًا في الحديث، بل ناقلًا دون تدقيق.

رابعًا: عزو بلا تثبت – حديث الذباب

عزا المؤلف حديث دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب إلى الإمام أحمد. لكن مسند أحمد لا يعرفه. إنما تبع ابن القيم في عزوه بلا تحقيق. وهو مثال آخر على النقل الأعمى، دون مراجعة المصادر الأصلية.

خامسًا: إحصائية المحققين – 26 رواية ساقطة

حين خرّج أبو مالك الرياشي – وهو من الوهابية – أحاديث الكتاب، اعترف بأن فيه 26 رواية ساقطة:

3 شديدة الضعف.

4 موضوعة أو منكرة.

10 منقطعة أو موقوفة أو معضلة.

13 أثرًا ضعيفًا أو ضعيفًا جدًا.

فكيف يكون هذا “كتاب التوحيد” وفيه هذا الركام من الضعيف والموضوع؟ وهل العقيدة يجوز أن تُبنى على هدم قواعد المحدثين؟

سادسًا: باب الخيط والحلقة – العنوان والمضمون تدليس

من أفظع الأبواب: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه.

العنوان نفسه حكم قطعي لا يقبل نقاشًا: “من الشرك”. وهذا خلاف المنهج العلمي الذي يعرض ثم يحكم.

استدل بآية الزمر: قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر. وهذه الآية في مشركي قريش الذين يعبدون الأصنام، لا في عوام المسلمين. ابن كثير والجلالين والميسر كلهم نصوا على ذلك. لكن المؤلف اجتزأها وأسقطها على من يعلّق خيطًا لوجع.

أورد حديثين ضعيفين: عمران بن حصين في الحلقة، وعقبة بن عامر في التميمة. المحقق نفسه قال إنهما ضعيفان. ومع ذلك جعلهما حجة في إخراج المسلمين من الملة.

فهل يعقل أن يكون التوحيد عنده خيطًا أو حلقة؟ وهل يسوغ تكفير الأمة بمثل هذا الهزل؟

سابعًا: بين التوسل والتكفير

من أخطر انحرافاته أنه جعل مجرد التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم شركًا أكبر. وهو حكم لم يقل به أحد من السلف. فليأتوا بنص واحد من السلف يحرّم التوسل أو يصفه بالشرك! بل إن تفسير العبادة بأنها مجرد التوسل أو النداء بدعة لم يعرفها المتقدمون.

هذا الخلط بين التوسل المشروع والعبادة الوثنية هو الذي فتح أبواب التكفير، حتى صار المسلمون جميعًا متهمين، وأصبح “التوحيد” عنده مطيّة لإهدار دماء الأمة.

ثامنًا: أقوال العلماء

قال مفتي الحنابلة محمد بن عبد الله النجدي في السحب الوابلة: “إن أبا محمد بن عبدالوهاب لم يكن مبرزًا في الفقه ولا الحديث، وإنما شهرته دعوته الشاذة”.
وهذه شهادة عالم من مذهبه وعصره، لا خصم بعيد.

تاسعًا: نتائج هذا المنهج

النتائج التي تترتب على كتاب التوحيد:

جعل التكفير هو الأصل، والتيسير هو الاستثناء.

تسليط الآيات النازلة في المشركين على الموحدين.

بناء العقائد على الأحاديث الواهية والموضوعات.

الطعن في الأنبياء من أجل تبرئة الشيخ.

اختزال التوحيد في مسائل شكلية كحلقة أو خيط.

هذا المنهج أفرز جيلاً لا يعرف إلا لغة الإقصاء، يردد الآيات والأحاديث خارج سياقها، ويستبيح الأمة باسم التوحيد.

ليس كتاب التوحيد كتاب توحيد، بل كتاب تكفير وتدليس. من نسب الشرك إلى آدم وحواء، وزاد في ألفاظ الصحيح، واعتمد الموضوعات، وأسقط آيات المشركين على المسلمين، لا يُسمى إمامًا ولا مجددًا. بل هو ناقل ضعيف، غلبت عليه الأوهام، فحوّل التوحيد إلى مقصلة، والعقيدة إلى سوط.

إن على الأمة أن تقرأ هذا الكتاب بعين الناقد، لا بعين المريد، وأن تفصل بين نور التوحيد الحق، وبين ظلمات التدليس. فالتوحيد أوسع من ضيق ابن عبدالوهاب، ورحمة الله أكبر من سيفه.