بداية نزول الوحي (1)


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

انزوى النبي صلى الله عليه وسلم بفطرته السوية عن الجاهلية وأهلها، واعتزل الناس واضمحلال أخلاقها، فكان يخلوا بغار حراء، وهو غار يَبعد عن مكة نحو ميلين، ومعه الزاد من الطعام والشراب، فيقيم فيه شهر رمضان، ويطعم من جاءه من المساكين، ويقضي وقته في العبادة والتفكر والتأمل، باحثاً عن سبيل العبادة المستقيم، وطالباً للمنهج الذي يرتضيه رب العالمين، حتى إذا صفت نفسه وارتقت إلى سُلم المعالى وتأهلت لتلقي أفضل ما نزل من السماء، نزل عليه جبريل عليه السلام بنور الوحي وسراج النبوة، في{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة: 185]، في ليلة القدر: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: 1]، وتحديدا كان البعثة النبوية في يوم الإثنين، كما قال أبو قتادة رضي الله عنه سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين، فقال: “ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه”.

وفي بداية نزول الوحي تحكي السيدة عائشة رضي الله عنها، وتقول : “أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتعبد فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: “ما أنا بقارئ”، قال: “فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق: 1 – 3]، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: “زملوني زملوني” فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: “لقد خشيت على نفسي”، فقالت خديجة: “كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق”.

فانطلقت به خديجة حتى أَتَتْ به ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، وكان رجلاً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يُخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أَوَمُخْرِجِيَّ هم”، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي.

أما عن الفوائد العظيمة من هذا الحدث التاريخي فهي موضوع مقالنا القادم إن شاء الله تعالى وقدر.