خطبة الجمعة بعنوان (المؤمن كالنخلة: ثباتٌ في الأصل، وإثمارٌ دائم ) للدكتور أحمد سليمان أبوشعيشع
19 أغسطس، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة بعنوان (المؤمن كالنخلة: ثباتٌ في الأصل، وإثمارٌ دائم )
للمفكر الإسلامي د. أحمد سليمان أبوشعيشع
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أيقظ القلوب من رقدة الغفلة بذكره، وجعل التفكر في آلائه سبيلاً إلى حضرته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً نرجو بها النجاة من ظلمات الهوى إلى أنوار القرب، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
قال النبي ﷺ: «إنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَأَخْبِرُونِي مَا هِيَ؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ: «هي النخلة» (رواه البخاري).
هنا أيها الإخوة يفتح لنا رسول الله ﷺ باباً للتأمل، باباً يذكّرنا أنَّ المؤمنَ ليس جسداً يمشي على الأرض، بل هو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. المؤمن في نظر النبي ﷺ ليس صورةً عابرة، ولا جسداً يذوي مع الأيام، بل هو معنى باقٍ، سرٌّ حيٌّ، كالنخلة التي لا يسقط ورقها، ثابتةٌ في أصلها، باسقةٌ في عطائها، مباركةٌ أينما وُجدت.
أيها الأحبة، انظروا إلى النخلة، جذورها تضرب في أعماق الأرض، لا يزحزحها ريحٌ ولا عاصفة، فهكذا المؤمن، جذوره في الإيمان، قلبه متشبّث بعهد الله، لا تهزه فتن الدنيا ولا تقتلع إيمانه مصائب الزمان.
وانظروا إلى ثمرها: تعطي بلا حساب، طيبها في ثمرها، ودواؤها في نواها، وظلها رحمة، وخوصها بناء، حتى جذعها بركة، كذلك المؤمن، كلّيته خير، كل جزءٍ منه رحمة، إن نطق فبذكر الله، وإن سكت فبفكرٍ، وإن مشى فإلى طاعة، وإن جلس فعلى ذكر.
يا عباد الله، ما أشبه المؤمن بالنخلة! تراها قائمة في صحراء قاحلة، لا ماء ولا خضرة، ومع ذلك تعطي الرطب جنياً. كذلك المؤمن، يعيش بين غافلين، ويُجاور قلوباً قاسية، لكنه يظل يعطي الخير، ويرفع الأذان بالفعل واللسان.
ولقد قال أهل الله من الصوفية:
-
المؤمن شجرةٌ في أرض الله، جذورها في مقام العبودية، وساقها في مقام الصدق، وأغصانها في مقام الإخلاص، وأوراقها في مقام الذكر، وثمارها في مقام العمل الصالح.
-
وقال آخر: “المؤمن كالنخلة، لا ينقطع عطاؤه لأنه يستمد من السماء، ولو اعتمد على الأرض وحدها لمات عطشه.”
أحوال النخلة صورة لأحوال المؤمن
-
ثباتها يذكرنا ببلال رضي الله عنه حين وُضع على الرمضاء يقال له: اكفر، فيقول: أحد، أحد. جذورٌ ثابتة في الإيمان، لا تهزها نار العذاب.
-
وعطاؤها يذكرنا بأبي الدحداح رضي الله عنه الذي باع بستاناً في الدنيا ليشتري نخلة في الجنة. أيُّ زهدٍ أعظم من هذا؟ ترك ستمائة نخلة في دار الفناء ليأخذ نخلة في دار البقاء!
-
ونماؤها يذكرنا بسلمان الفارسي رضي الله عنه، حين غرس النبي ﷺ بيديه ثلاثمائة نخلة لتكون فدية له من الرق، فكانت كلها تثمر في عامها، بركة يد النبي ﷺ.
أيها الأحبة، النخلة لا تسقط أوراقها، والمؤمن لا يسقط إيمانه مهما نزلت به البلايا. النخلة لا تملّ من العطاء، والمؤمن لا يملّ من خدمة الخلق، لأنه يعلم أن من أعطى لله ما نقص ماله، ومن خدم عباد الله رفعه الله في مقام القرب.
فيا عباد الله، اجعلوا أنفسكم كالنخيل: ثابتة في الأرض، متصلة بالسماء، باسقة بالعطاء، لا تغيرها فصول الدنيا ولا تسقط أوراقها عند هبوب الريح.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل التفكر في مخلوقاته سبيلاً إلى معرفته، وجعل ذكره حياةً للقلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة المؤمنون، إن التفكر في خلق الله عبادة منسية، ولكنه مفتاح القلوب وأساس اليقين. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].
لقد كان رسول الله ﷺ يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فإذا قرأ هذه الآيات بكى وقال: «ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
يا عباد الله، التفكر ساعة خير من قيام ليلة، لأن التفكر يحيي القلب. إن قيام الليل غذاء الجسد بالركوع والسجود، والتفكر غذاء الروح بالنظر والشهود. قال الحسن البصري: “فكرة تحيي القلب خير من عبادة سنة.”
أيها الإخوة، القلب إذا خلت منه الفكرة ذبل كسعف النخلة اليابس، وإذا عمر بالتفكر في الله أورق وأثمر كالنخلة التي لا يسقط ورقها. فمن أراد حياة قلبه فليكثر من الفكر في القرآن والكون، ومن أراد أن يثبت إيمانه فليغرس جذوره في التوحيد والذكر.
ولقد قال أهل التصوف:
-
الفكر مصباح القلب، فإذا ذهبت الفكرة بقي القلب في ظلمة.
-
والذكر ماء الحياة، فإذا انقطع الذكر عطش القلب فمات.
-
والمؤمن الكامل هو الذي يجمع بين الذكر والفكر، فيكون كالنخلة: أصلها في الأرض بالعبودية، وفرعها في السماء بالمعرفة، وثمرها في قلوب العباد بالرحمة.
يا عباد الله، إن الدنيا ظلّ زائل، ونخلة ذابلة، ودار فانية، فلا تتشبثوا بأوراقها الصفراء، فإنها تتساقط سريعاً، ولكن تمسكوا بالنخلة التي لا يسقط ورقها: تمسكوا بالإيمان، فإنه الباقي بعد الموت، والرفيق في القبر، والنور على الصراط، والزاد في الآخرة.
دعاء ختامي
اللهم اجعلنا من الأشجار الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
اللهم اجعلنا كالنخل في عطائه وثباته، وارزقنا الإخلاص في السر والعلن.
اللهم نوّر قلوبنا بذكرك، وأحي أرواحنا بأنوار معرفتك، ولا تجعلنا من الغافلين.
اللهم ارزقنا قلوباً زاهدة في الدنيا، راغبة في الآخرة، عامرة بذكرك، مطمئنة بقربك.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفكر الإسلامي د. أحمد سليمان أبوشعيشع
أستاذ بجامعة كفر الشيخ، خادم الساحة المنهلية