أبعاد العدالة البيئية [البعد الطبيعي]

بقلم الدكتور: حاتم عبدالمنعم
أستاذ علم الاجتماع البيئى كلیة البییة جامعة عین شمس

 

1. العدالة البيئية كل مترابط ببعضه البعض، والبعد الطبيعي امتداد للبعد الاجتماعي والاقتصادي، فمثلاً لن يكون بالإمكان نجاح التنمية المتواصلة دون الإقتسام العادل لتكاليف ومكاسب حماية البيئة داخل البلدان وفيما بينها لاري كوهني، 1990، 17)

 وهذا يعني في البعد الطبيعي أن يكون هناك عدالة بين الأجيال ليورث الآباء أبنائهم الأرض خصبة موصولة العطاء والمياه نقية خالية من التلوث، والهواء نظيف، وحقول البترول أو الغاز غير ناضبة (القصاص ، (1990) (23) فالإستمرار والتواصل يجب أن يمتد لجميع الموارد الطبيعية، من خلال المحافظة عليها من التلوث والاستنزاف، لكي تستمر في العطاء وبكفاءة لأبنائنا واحفادنا ولن يتحقق ذلك إلا من خلال العدالة والمساواة بين المواطنين والأجيال، مع العدالة بين الأقاليم داخل الوطن الواحد، وهذا يستلزم إعادة توزيع

الموارد، لأن تركيزها في يد أقلية وحرمان الأغلبية سيؤدي حتماً إلى تدمير واستنزاف وسرعة تلوث البيئة من كلا الجانبين، فالغني يستنزف ويلوث أضعاف الفقير ، والفقير مضطر أيضاً لتلويث البيئة فضلاً عن أخطار الحقد والشعور بالظلم (جلبرتو، 1989،(211)

 فالرفاهية المغالى فيها في المجتمعات الغنية قمة عالية تدفع من فوقها البيئية، لتسقط وسط حطام مواردها الناضبة المستنزفةوالفقر المدقع هاوية غايرة تدفن فيها البيئة إلى جوار مواردها المستنزفة 1982 Hagen ، ومن هنا أهمية العدالة في التعامل الموارد الطبيعية، لأن موارد الكرة الأرضية كافية لإشباع الحاجات الأساسية لكل الكائنات الحية إذا أديرت بكفاءة وعدالة، فمثلاً كمية الغذاءمع الذي ينتجه العالم يكفي كل سكانه وأكثر ، كما أن الدراسات العالمية تؤكد أن الطاقة الشمسية المتواجدة تبلغ أكثر من 8 آلاف مرة

الطاقة المتولدة عن الوقود الأحفوري الآن، ولكن المشكلة يلخصها غاندي في قوله إن الأرض تكفي احتياجاتها كل فرد ولكنها لا تكفي أطماع كل فرد (دونيلا، 1990، 47)، ومن هنا أهمية توفير العدالة في توزيع الموارد الطبيعية، لأنه لا يمكن لأي نظام غير منصف ان يستمر ناجحاً لفترات طويلة،

لأنه عندما يكون التوزيع يتسم بالظلم فسيؤدي هذا لزيادة الأحقاد والاختلاف والصراع والتراجع والعدالة لا تعني المساواة المطلقة، ولكنها تعني توفير الضروريات لكل إنسان مع إتاحة الفرصة لتحسين الحياة بدون إستغلال أو أطماع، وبما لا يضر فلا ضرر أو ضرار، وهذا يتطلب تعاون دولي وشروط تجارية أكثر عدلاً وتسهيل نقل التكنولوجيا النظيفة للدول النامية بسعر التكلفة، مثل تكنولوجيا الطاقة الشمسية والطاقة المستخرجة من المياه والرياح والزراعة الطبيعية والتشجير وخلافه للحفاظ على الموارد الطبيعية موصولة للأجيال القادمة وإذا عدنا مرة أخرى لداخل الوطن نجد أن لكل دولة مواردها الطبيعية التي أنعم الله بها عليها، وهذه الموارد ليست ملك أو إنتاج بعض الأفراد العاملين بل هي ملك جميع المواطنين كل حسب حاجته كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.

2. والموارد الطبيعية بعضها متجددة مثل الشمس والمياه وغيرهما، وبعض الموارد غير متجددة مثل الأراضي والبترول والغاز :

ومن هنا اهمية التروي والتأني عند التعامل مع مثل هذه الموارد، لأنها مورد ناضب، ويجب المحافظة عليها، ومراعاة حق الأجيال العدالة البيئية بين الأجيال، ومن هنا فأي مورد طبيعي يكون التصرف فيه وفقاً لمبادئ العدالة سواء بين جميع القادمة فيها، فهذه هي المواطنين، أو بين الأجيال وبعضها البعض والمطلوب بعد ذلك لتحقيق العدالة داخل الوطن تحديد حد أقصى للمساحات لكل شخص، سواء داخل المدن أو حتى في الصحراء ، فيمكن مثلاً تحديد 500 أو ألف متر لكل فرد مرة واحدة في العمر داخل المدن مقابل عشرة آلاف متر في المناطق الصحراوية كحدأقصى، واعتقد أن أي أسرة مكونة من أربعة أفراد لن تحتاج لأكثر من أربعة آلاف متر، وهذا الحق يجب أن يرتبط معه توفير حد أدنى أيضاً لكل إنسان في الوطن وليكن 200 متر مثلاً، ويجب أن يتوافر ذلك بسعر رمزي لكل مواطن.

 ويمكن تحقيق ذلك في أي مدينة جديدة من خلال إعطاء قطع الأراضي الكبيرة وفي المواقع المتميزة للأغنياء ، بضعف تكلفة خدمات البنيةالأساسية في مقابل مبالغ رمزية لمحدودي الدخل، وبذلك يتحمل الأغنياء معظم تكلفة مساكن الفقراء، ويتحقق التكافل الاجتماعي والعدالة البيئية معاً.

3 يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – الناس شركاء في ثلاث هي الماء والكلاء والنار . بوصفها موارد ومرافق عامةضرورية لعامة الناس محمود) الشرقاوي، 1946، ص88)، ومن المتفق عليه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حمى أرضاً بالمدينة يقال لها “النقيع” لترعى فيها خيل المسلمين، وحمى عمر بن الخطاب أيضاً أرضاً بالريذة وجعلها مرعى لجميع المسلمين، فجاء أهلها يقولون يا أمير المؤمنين إنها بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام علام تحميها؟ فأطرق عمر ثم قال : المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حبيت من الأرض شبراً في شبر، والحمى هو اقتطاع جزء من الأرض لتكون مرعى عاماً لا يملكه أحد بل ينتفع به سواء الشعب، وهذا صريح في تملك الدولة لبعض الأراضي لضرورة المجتمع والدولة (محمود الشرقاوي، 1986، ص (89)

وإذا اقتضت مصلحة المجتمع إنتزاع ملكية الأرض من أصحابها مقابل تعويض مناسب وقد قاسم عبر بن الخطاب ولاته نصف أموالهم، وهم من كبار الصحابة كأبي هريرة وعمرو بن العاص وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وهذا إنتزاع للمال حين تقتضي المصلحة (91-90محمود الشرقاوي، 1966، ص ص

4 عمر بن الخطاب والعدالة بين الأجيال في الموارد الطبيعية :

عندما فتح أبو عبيدة الشام، كتب إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين يقول: إن المسلمين سألوه أن يقسم بينهم المدن والأراضي وما فيها من زرع أو شجر، وأنه أبى ذلك عليهم حتى يبعث إليه عمر برأيه. وأيضاً طلب الجند الذين قدموا من جيش العراق من عمر الأرض التي افتتحت كغنيمة، كما قسم رسول الله ﷺ خيبر، فجمع عمر رضي الله عنه الناس لينظروا في الأمر، فرأى كثير أن يقسم لهم ما فتحوا، وقال عمر قولته الشهيرة: لو قسمته لم يبقَ لمن بعدكم شيء، فكيف بمن يأتي بعدنا من المسلمين فيجدون الأرض قد قُسمت ووُرثت عن الآباء وحِيزت؟ ما هذا برأي؟

فأكثروا عليه وقالوا: كيف توقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا؟ ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟ أي لم يحاربوا أو يتعرضوا للخطر. وكان من المؤيدين لهذا الرأي صحابة أجلاء منهم عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وبلال بن رباح، وكانوا يعتمدون على قول الله تعالى:

﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأنفال: 41]

وأيّد عمرَ عليٌّ وطلحة ومعاذ. ولما حدث الاختلاف احتكموا إلى عشرة من الأنصار، وتحدث عمر إليهم وقال: “إني لم أزعجكم إلا لتشتركوا في أمانتي فيما حُمِّلت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تُقِرُّون بالحق”، وعرض القضية، وأنه يرى أن تُوقَف الأرض بما لها ويُوضَع عليها فيها الخراج، فتكون نافعة للأجيال القادمة، كما أن هذه المدن لابد أن تحتاج لجيوش وتسليح، فمن أين نأتي بذلك إذا قُسمت الأراضي؟ وأنه يعتمد في حجته هذه على قول الله تعالى:

 ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]

فقال عمر: هذه عامة في القرى كلها. ثم قول الله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]

فأوضح أنها للمهاجرين، ثم الآية التي بعدها قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] وهذه للأنصار، ثم ختم بالآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]

وهذه عامة للناس من بعدهم. ولذلك اقتنع الجميع، وكان جوابهم جميعاً: “نعم ما قلت وما رأيت”. ولذلك اعتبر عمر أراضي العراق والشام والجزيرة ومصر وقفاً للدولة، وفلاحوها أجراء عليها، يأخذون من غلتها ما يحتاجون إليه، وما بقي فهو للدولة. واستمر الحال هكذا إلى عهد عبد الملك بن مروان، ثم أذن لهم عبد الملك والوليد وسليمان في شراء الأراضي على أن يدفعوا ثمنها إلى بيت المال. وأراد عمر بن عبد العزيز أن يرد الأمر إلى نصابه أيام عمر بن الخطاب وينتزع الأرض للدولة مرة أخرى، ولكنه قوبل بصعوبات جمة، فقرر منع بيع أراضي الخراج لكي تبقى ملكاً عاماً للدولة. (محمود الشرقاوي، 1966، ص 91-97