خطبة بعنوان (لا تغلُوا في دينِكُم..وما كان الرفقُ في شيءٍ إلا زانه) للدكتور أيمن حمدى الحداد


خطبة بعنوان (لا تغلُوا في دينِكُم..وما كان الرفقُ في شيءٍ إلا زانه)
للدكتور : أيمن حمدى الحداد


نص الخطبة:
الحمد لله رب العالمين أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: إن الرفق خُلقٍ عظيم، ومسلكٍ كريم، وصفةٍ نبيلة من صفاتِ المؤمنين، خلق يجمع بين محاسن الأقوالِ والأفعال، فمن رُزق الرفق رُزقَ الخيرَ كُله، ومن حُرم الرفق حُرمَ الخيرَ كُله؛ قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(الأعراف: ١٩٩)،

وقال تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان: ٦٣)، وعن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أكمل الناس إيمانًا أحاسِنهم أخلاقًا الموطؤونَ أكنافاَ، الذين يألفون ويُؤلفون، ولا خيرَ فيمن لا يألفُ ولا يُؤلف» رواه الطبرانى.

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يدخُلُ الجنةَ أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير» رواه مسلم.

وربنا تبارك وتعالى رفيقٌ يحبُّ الرفقَ، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على غيره. فهو سبحانهُ وتعالى رفيقٌ بخلقه؛ قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ (الشورى: ١٩)، وقال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ (الأعراف: ١٥٦)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» رواه البخارى.
وفي روايةٍ لمسلم: «إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي»،

والله عز وجل رفيقٌ في أمره ونهيهِ؛ قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(البقرة: ١٨٥)، وقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ (التغابن: ١٦)، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾(الحج: ٧٨)، وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾(البقرة: ٢٨٦)، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الدينَ يُسرٌ، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهَ، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحةِ، وشيءٍ من الدُّلْجة» رواه البخارى.

عباد الله: لقد بنيت الأحكام الشرعية كلها على الرفق والتيسير ورفع الحرج والمشقة عن المكلفين من أمثلة ذلك؛

– لقد كان سيدنا رسول الله ﷺ يحب أن يطيل فى الصلاة لكنه كان يخففها رفقاً ورحمة بالأم وطفلها؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «إنِّي لَأَدْخُلُ في الصَّلَاةِ وأَنَا أُرِيدُ إطَالَتَهَا، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فأتَجَوَّزُ في صَلَاتي ممَّا أَعْلَمُ مِن شِدَّةِ وجْدِ أُمِّهِ مِن بُكَائِهِ» متفق عليه.

– انقطاع سيدنا رسول الله ﷺ عن صلاة القيام في المسجد رفقاً بالناس وخوفاً من أن تفرض عليهم؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسو الله ﷺ خرج مِن جوفِ الليلِ فصلّى في المسجدِ، فصلَّى رجالٌ بصلاتِهِ، فأصبح الناس يتحدثونَ بذلك، فاجتمعَ أكثرُ منهم، فخرج رسول الله ﷺ في الليلة الثانيةِ، فصلَّوْا بصلاتهِ، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثُر أهلُ المسجدِ من الليلة الثالثة، فخرجَ فصلَّوْا بصلاتِهِ، فلمَّا كانتِ الليلةُ الرابعةُ عجزَ المسجدُ عن أهلهِ، فلم يخرجْ إليهم رسولُ اللهِ ﷺ فَطَفِقَ رجالٌ منهم يقولونَ: الصلاةَ، فلم يخرج إليهم رسول الله ﷺ حتى خرج لصلاة الفجر، فلمَّا قضى الفجرَ أقبلَ على الناس، ثم تشهَّدَ، فقالَ: «أمَّا بعدُ، فإنهُ لم يَخْفَ عليَّ شأنُكُم الليلةَ، ولكنِّي خشِيتُ أن تُفْرَضَ عليكم صلاةُ الليل فَتَعْجَزُوا عنها» رواه البخاري

– ولقد دخل سيدنا رسول الله ﷺ على عائشة رضى الله عنها وعندها امرأة تقوم الليل ولا تنام قال: «اكلَفوا منَ العمَلِ ما تطيقونَ فإنَّ اللَّهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا وإنَّ أحبَّ العملِ إلى اللَّهِ أدومُهُ وإن قلَّ وَكانَ إذا عمِلَ عملًا أثبتَه» متفق عليه.

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: «دخَل رسولُ اللهِ ﷺ المسجدَ وحبلٌ ممدودٌ بينَ ساريتَيْنِ فقال: ما هذا ؟ قالوا: لزينبَ تُصلِّي فإذا كسِلَتْ أو فتَرَتْ أمسكت به قال: حُلُّوه، ثمَّ قال: لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه فإذا كسِل أو فتَرَ فليقعُدْ» رواه البخاري.

– ولقد جاء ثلاثُ رهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النبيِّ ﷺ، يَسأَلونَ عن عبادةِ النبيِّ ﷺ، فلما أُخبِروا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أين نحن منَ النبيِّ ﷺ؟ قد غفَر اللهُ له ما تقدَّم من ذَنْبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أما أنا فإني أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللهِ ﷺ فقال: «أنتمُ الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكني أصومُ وأُفطِرُ، وأُصلِّي وأرقُدُ، وأتزوَّجُ النساءَ، فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس مني» رواه البخارى.

– ولقد نهي سيدنا رسول الله ﷺ عن الصيام في السفر؛ فعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه: كان النبي ﷺ في سفر فرأى رجلاً قد اجتمع الناس عليه فقال: «ما له؟ قالوا: رجل صائم فقال النبي ﷺ: «ليسَ من البرِ الصيامُ في السفرِ» رواه البخارى.

– إباحة الفطر للمريض والمسافر والحامل والمرضع؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾(البقرة: ١٨٤)، وقال سيدنا رسول الله ﷺ: «إنَّ اللَّهَ تعالى وضعَ شطرَ الصَّلاةِ أو نصفَ الصَّلاةِ والصَّومَ عنِ المسافرِ وعنِ المرضعِ أوِ الحُبلى» رواه أبو دواد.

– من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «من أكل ناسيًا وهو صائمٌ، فليتمَّ صومَه؛ فإنما أطعمه اللهُ وسقاه» رواه النسائي.

– قال ابن عمر، أنه قال: أنزلت: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾(البقرة: ١٨٣)، كتب عليهم أن أحدهم إذا صلَّى على العتمة ونام، حُرِمَ عليه الطعام والشراب والنساء إلى مثلها.

واستمر الأمر على هذا عند المسلمين الأوائل؛ فقد كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجِماع، فحصلت المشقَّة لبعضهم، فخفَّف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجِماع، سواء نام أو لم يَنَمْ؛ لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به؛ فعَنِ الْبَرَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾(البقرة: ١٨٧)، فَفَرِحُوا بِهَا فرحاً شديداً.

– ولقد كان سيدنا رسول الله ﷺ رفيقاً مترفقاً حتى مع المخطئين؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «دَعُوهُ، وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» رواه البخارى.

وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه: «بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ ﷺ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ ﷺ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ» رواه مسلم.
وعن أبي أمامة الباهلى رضي الله عنه؛ أنَّ غلامًا شابًّا أتى النبيَّ ﷺ فقال: يا نبيَّ اللهِ أتأذنُ لي في الزنا؟ فصاح الناسُ به.

فقال النبيُّ ﷺ قَرِّبوهُ، ادْنُ فدنا حتى جلس بين يديْهِ.
فقال النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ: أتحبُّه لأُمِّكَ؟فقال: لا. جعلني اللهُ فداك.
قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لِأمَّهاتِهم أتحبُّه لابنتِك؟ قال: لا. جعلني اللهُ فداك.
قال: كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه لبناتِهم، أتحبُّه لأختِك؟ وزاد ابنُ عوفٍ حتى ذكر العمَّةَ والخالةَ، وهو يقولُ في كلِّ واحدٍ لا , جعلني اللهُ فداك , وهو ﷺ يقولُ كذلك الناسُ لا يُحبُّونَه، وقالا جميعًا في حديثِهما– أعني ابنَ عوفٍ والراوي الآخرَ – : فوضع رسولُ اللهِ ﷺ يدَه على صدرِه وقال: اللهمَّ طهِّرْ قلبَه واغفر ذنبَه وحصِّنْ فَرْجَه فلم يكن شيءٌ أبغضَ إليه منه» رواه العراقى.

– وإن المتأمل فى شرع مَن قبلنا يجد أن التوبة في شريعتهم كانت توجب على المذنب قتلَ نفسِه حتى يبرأ ويتطهر من ذنبه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة: ٥٤)،

– إلا أن دِيننا الحنيف شرعَ التوبة والاستغفار من الذنب دونما حاجةٍ لقتل النفس؛ قال تعالى: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾(نوح: ١٠-١٢)، وعن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر اللهَ الذي لا إله إلا هو، الحيَّ القيومَ، وأتوب إليه، ثلاث مرات غفَر الله له ذنوبه، وان كانت مِثل زَبَدِ البحر» رواه أحمد.

فاتقوا الله عباد الله: واتبعوا ولا تبدعوا وكونوا ميسرين ولا تكونوا معسرين، وتحلوا بالرفق فى جميع أحوالكم وأفعالكم وأقوالكم.


أقول قولى هذا واستغفر الله العظيم لى ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا أيها المسلمون: إن خلق الرفق من أعظم الأخلاق التى دعت إليها شرعيتنا الغراء
بل إن الإنسان الرفيق الرحيم ينال سعادة الدارين؛

قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت: ٣٤)،
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: «مَنْ كان سهْلًا هيِّنًا لَيِّنًا، حرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ» رواه البيهقى.

وعن زارع بن عامر بن عبدالقيس العبدي قال: لما قدمنا المدينةَ، فجعلْنا نتبادرُ من رواحِلنا، فنقبِّل يدَ النبيِّ ﷺ ورجلَه، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه ثم أتى النبي ﷺ فقال له: «إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة»
قال: يا رسول اللهِ! أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما».
قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله.. رواه أبو داود.

عباد الله: إن للرفق في الإسلام صور ر متعددة تشمل كل جوانب الحياة من أمثلة ذلك؛
– الرفق بالوالدين؛ إن أولى الناس بالرفق واللينِ الأهلُونَ والأقربون، وخُصوصًا الوالدين الكريمين؛ قالَ تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾(الإسراء: ٢٣-٢٤)،
وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾(لقمان: ١٤)، وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسولَ الله، مَنْ أحَقُّ بِحُسْنِ صحابتي؟
قال: «أمُّك». قال: ثم مَنْ؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَنْ؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَنْ؟ قال: «ثم أبوك» رواه الشيخان.

– الرفقُ بالرعية؛ قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الشعراء: ٢١٥)،
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «اللهم من وليَ من أمر أُمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن وليَ من أمر أُمتي شيئًا فرفقَ بهم فارفُق به» رواه مسلم.

قال الإمامُ ابن القيم رحمهُ الله: «من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ اللهُ به، ومن رحمَهمْ رحمَه، ومن أحسنَ إليهم أحسنَ إليهِ، ومن نفعَهم نفعهُ، ومن سترهُم سترهُ، ومن عاملَ خلقهُ بصفةٍ عاملهُ اللهُ بتلك الصِّفةِ بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسبَ ما يكونُ العبدُ لخلقه».

– الرفقُ عند إسداء النصحية؛ فعن أبي رقية تميم بن أوسٍ الداري رضي الله عنه: أن النبي ﷺ قال:

«الدِّين النصيحة» قلنا: لِمَن؟ قال: « لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم » رواه مسلم.
ولقد قال أحدهم لأمير المؤمنين هارون الرشيد: إني ناصحك ومغلظ لك في النصيحة؟ قال: لا. إن الله بعث من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾(طه: ٤٣-٤٤)، وعن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» رواه أبو داود.

– الرفقُ والسماحةُ في البيع والشراءِ، وسائرِ المعاملات؛ قال رسول الله ﷺ: «رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى»
– الرفق بالعمَّالُ والأُجراء؛ فعن عَبْداللَّهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ فَصَمَتَ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ، فَصَمَتَ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: «اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً».

وفي رواية البخاري: «ولا تكلُفُوهم ما يَغْلِبُهم، فإنْ كَلَفْتُمُوهم فَأَعِيْنُوهُم».
– الرفقُ مع المعسرِ والمدِين؛ قال تعالى: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون﴾(البقرة: ٢٨٠)،

قال رسول الله ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ» رواه مسلم.
– الرفقُ مع المخالِفِ، قال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(النور: ٢٢)، وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ اليَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ.

قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ»،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ، أَوِ الفُحْشَ»
قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟
قَالَ: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ، رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ» رواه البخارى.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ»، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى «نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّه ﷺ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ»،
ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ،
«فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ» متفق عليه.
وقال الإمام الشعبي لرجل يخاصمه: «إنْ كُنتُ كما قُلتَ فغَفَرَ الله لي، وإِنْ لم أكنْ كما قُلتَ، فغفرَ اللهُ لك».
– الرفق بالحيوان؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «في كلِّ كَبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ» متفق عليه.
وعن سهل ابن الحنظلية الأنصاري رضي الله عنه قال: «مرَّ رسولُ اللَّهِ ﷺ ببعيرٍ وقد لَحِقَ ظَهرُه بَطنَه فقال: اتَّقوا اللَّهَ في هذِه البَهائمِ المُعجَمةِ، فاركَبوها صالِحةً وَكلوها صالِحةً» رواه أبو داود.
فاتقوا الله عباد الله: وليكن الرفق رائدكم فى كل شئونكم.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

وأقم الصلاة

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ١٤ من صفر ١٤٤٧ هجرياً
الموافق ٨ أغسطس ٢٠٢٥ ميلادياً