
بقلم الشيخ : الحسين بن أحمد المالكى الأزهرى
يُخطيء كثير من الناس في فهم حديث: “لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِد: المَسْجِدِ الحَرَام وَمَسْجِدِي هَذَا وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى”.
فيستدلون به على تحريم شَدِّ الرحال لزيارة النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويعتبرون أن السفر بذلك سفر معصية وهذا الاستدلال مردود لأنه مبني على فهم باطل .
..قال شيخ الإسلام الفيروز آبادي: أما حديث: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” فلا دلالة فيه على النهي عن الزيارة بل هو حجة في ذلك، ومن جعله دليلا على حرمة الزيارة فقد أعظم الجراءة على الله ورسوله، وفيه برهان قاطع على غباوة قائله وقصوره عن نيل درجة كيفية الاستنباط والاستدلال.
وعلة ذلك أن قوله (صلى الله عليه وسلم): “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد” جاء على الأسلوب المعروف عند اللغويين بأسلوب الاستثناء وهذا يقتضي وجود مستثنى ومستثنى منه، فالمستثنى هو ما كان بعد إلا، والمستثنى منه هو ما كان قبلها وهو لابد منه إما مذكورا أو محذوفا، وهذا مقرر ومعروف في أبسط كتب النحو.
وإذا نظرنا إلى هذا الحديث وجدنا أنه قد جاء فيه التصريح بذكر المستثنى وهو قوله: (إلى ثلاثة مساجد) وهو ما بعد (إلا) ولم يأت ذكر المستثنى منه وهو ما قبل (إلا) فلابد إذاً من تقديره.
فإن فرضنا أن المستثنى منه (قبر) كان اللفظ المنسوب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) (لا تشد الرحال إلى قبر إلا إلى ثلاث مساجد) وهذا السياق ظاهر في عدم الانتظام وغير لائق بالبلاغة النبوية. فالمستثنى غير داخل ضمن المستثنى منه – والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، ولا يطمئن قلب عالم – يتحرج من نسبة كلام للمصطفى (صلى الله عليه وسلم) لم يقله – إلى نسبة هذه اللفظة (قبر) – وهي لا تتفق مع الأصل في الاستثناء – إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعليه فلا تصلح أن تكون هي المستثنى منه.
فلنفرض أنها لفظ (مكان) وهو المسمى بعموم الحديث السياق المقدر المنسوب لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) على هذا الفرض: (لا تشد الرحال إلى مكان إلا إلى ثلاثة مساجد)، ومعنى هذا ألا نسافر إلى تجارة أو علم أو خير، وهذا ضرب من الهوس ظاهر البطلان.
إذا فالحديث اشتمل على ذكر المستثنى وليس فيه ذكر المستثنى منه، ولذلك لابد من تقديره باتفاق أهل اللغة.
١- أن يكون تقديره بلفظ (قبر) فيكون اللفظ المقدر “لا تشد الرحال إلى قبر إلا إلى ثلاثة مساجد”.
وهذا التقدير مبني على رأي من يستدل بالحديث على منع السفر لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأنت ترى أنه تقديرٌ بارد ممجوج لا يستسيغه من عنده أدنى إلمام بالعربية، ولا تليق نسبته إلى أفصح من نطق بالضاد (صلوات الله وسلامه عليه)، فحاشا أن يرضى بمثل هذا الأسلوب الساقط.
٢- أن يكون تقدير المستثنى منه في الحديث بلفظ عام، وهو لفظ مكان هذا باطل كما تقدم بلا خلاف ولا قائل به. لأنه بذلك سيحرم السفر للتجارة أو العلم او الأقارب .
٣- أن يكون تقدير المستثنى منه في الحديث بلفظ (مسجد) فيكون سياق الحديث: بلفظ “لا تشد الرحال إلى مسجد إلا إلى ثلاثة مساجد”.
وبهذا التقدير يكون أسلوب الكلام قد انتظم وجرى على الأسلوب اللغوي الفصيح واختفى التهافت الواضح في الصورتين المتقدمتين وأشرقت فيه روح النبوة، وبهذا يطمئن القلب النقي إلى نسبته لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
هذا بفرض أنه لا توجد رواية أخرى مصرحة بالمستثنى منه، فإذا وجدت هذه الرواية، فلا يحل لمن له دين أن يعدل عنها إلى محض فرض لا يستند إلى فصيح اللغة.
وقد وجدنا بحمد الله في السنة النبوية من الروايات المعتبرة ما فيه التصريح بالمستثنى منه.
فمنها: ما أخرجه الإمام أحمد من طريق شهر بن حوشب قال: سمعت أبا سعيد وذُكرت عنده الصلاة في الطور فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا ينبغي للمطي أن يشد رحاله إلى مسجد تبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي”
وفي لفظ آخر: “لا ينبغي للمطي أن تشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا”
وعلى هذا فالمقصود بعدم شد الرحال لزيارة مسجد يبتغى فيه زيادة الاجر للصلاة غير هذه المساجد الثلاثة.
فيكون المقصود الأجر لا نفس المسجد.
المصادر
١- فتح البارى شرح صحيح البخارى لابن حجر العسقلانى .
٢- مسند الإمام للإمام أحمد .
٣- كتاب الصلات والبشر للفيروزآبادى .