التعامي العقلي


بقلم الشيخ : عبدالعزيز معروف

إن من أرذل العيوب الفكرية التي ابتُلي بها هذا الجيل، أنه لا يكلّف عقله مؤونة المقارنة، ولا يسأل ذهنه مشقة الاستقصاء، بل يقتاتُ فكرُه على ما تُلقيه إليه العواطف الرخيصة، أو ما تجرّه ألسنة التهويل، أو ما يُقال بصوتٍ عالٍ، لا بما يُقال بمنطقٍ سليم.

فكم سمعتُ – وما زلت أسمع – من يَرمي مصر، حكومةً وشعبًا، بأنها متقاعسةٌ عن نصرة القضية الفلسطينية، أو أنها قد بدّلت موقفها، أو أنها صارت تابعةً لمن لا نحب!

ولو كانت هذه الاتهامات تُرمى في مجلس فيه رجلان من أهل الرشد لقال أحدهما للآخر:
“ما لكم كيف تحكمون؟”

فهل سألتم أنفسكم – وأنتم تطلقون هذه الأحكام – كم قاعدة عسكرية أمريكية توجد في مصر؟
كم صاروخًا أمريكيًا نُصب في صحرائها؟
كم اتفاقًا خفيًّا أُبرم خلف ظهر شعبها؟
كم طائرة أقلعت منها لتمهد السماء فوق غزة للطائرات الصهيونية؟

الجواب معروف: لا شيء.

أما الخليج – وأخص من ذلك دولًا بعينها لا داعي لتسميتها، فإن الحقيقة في شأنها صارت من فرط وضوحها أشبه بالماء لا يُرى إلا إذا عكّره الغبار.

فهناك تُضخ المليارات في شرايين الاقتصاد الأمريكي، وهناك تُفتح القواعد، ويُستدعى الأسطول، وتُحلق الطائرات، ثم لا نسمع في ذلك همسًا، بل نسمع التصفيق.

فهل تجرأ أحدٌ ممن يُقيمون المآتم النقدية لمصر أن يقول كلمة؟
بل هل خَرج صوتٌ واحدٌ من أولئك المنفعلين – ممن يظنون الوطنية في الشتم فقط – ليقيس الأمور بعينٍ واحدة لا اثنتين؟
الحق أنهم ما رأوا، لأنهم ما أرادوا أن يروا.
هذا هو التعامي العقلي

إنه التعامي الذي يختار صاحبه أن يُغمض عينيه لا لأنه لا يرى، بل لأنه لا يريد أن يُفكّر.

وأقول : إن الجهل جهلان، جهل العاجز، وجهل المتغافل.

أما الأول فربما عُذر، وأما الثاني فلا يُغفر، لأنه جهل فيه تكبرٌ على الفهم، واستعلاءٌ بالهوى على المنطق

مصر… الدولة والفكرة

مصر ليست محلًا للمقارنة على طاولة المقايضة، ولا ساحةً للتشهير بحكم العادة، بل هي : دولة تُسأل دائمًا، وتُجيب دائمًا، ولكنها لا تشتري رضا أحد، ولا تُجارى في المزايدات.

وسؤالها لأنها القلب النابض
وإجابتها ؛ لأنها تحسن الكلام وقت الكلام ، وتحسن السكوت وقت السكوت

ومن يقرأ التاريخ لا يغفل عن أن مصر هي الدولة التي لم تَخُن القضية يومًا، ولم تُصفّق للباطل تحت قبة الأمم، ولم تَصمت حين وجب الكلام، ولا تكلّمت حين وجب الصمت، وهي : لا تزال تقف الموقف الذي يليق بها.

يا قوم: أفيقوا

لا تكونوا كمن لعن البدر لأنه لا يطلّ عليه من نافذته، أو كمن عاب البحر لأنه غاص في التراب.
فالعقل الذي لا يرى إلا ما يوافق هواه، ليس عقلًا، بل عادةٌ تتنفس.

فارجعوا إلى رشد الفكر، قبل أن تستغرقوا في هذا الذهول الجماعي الذي يستبدل الحقائق بالشعارات، والإنصاف بالتحامل، والإنكار بالتطبيل

وإياكم والتعامي العقلي

الذي هو ؛ ذهول الاستسلام حيث لا يعود المرء يرى شيئًا لأنه توقف عن التفكير .

” أنيس الأزهر “