الصوفية ونهاية حكم الممالك الإسلامية في الأندلس

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

عبر أكثر من ثمانية قرون، سطعت شمس الحضارة الإسلامية في الأندلس، وأضاءت ربوع أوروبا بمعارفها وفنونها وعدلها وعلومها. لكنها، ورغم هذا المجد التليد، انتهت هذه الحقبة بسقوط آخر الممالك الإسلامية في غرناطة سنة 1492م، لتُطوى صفحة من أعظم صفحات التاريخ الإسلامي. وبين أسباب السقوط، يأتي التساؤل الكبير حول دور الصوفية في تلك المرحلة المصيرية: هل كانوا عنصر ضعف أم ساحة مقاومة؟ هل انشغلوا عن الواقع، أم حملوا أرواحهم في مواجهة الانهيار؟

شهدت الأندلس حضورًا صوفيًا مبكرًا منذ القرن الثالث الهجري، وكان لهم حضور لافت في المدارس والزوايا وفي الأدب والشعر وحتى السياسة. ومن أبرز أعلام التصوف الأندلسي الإمام محيي الدين بن عربي، وابن سبعين، وابن العريف، وأبو مدين الغوث. وقد انشغل كثير من هؤلاء بالسفر والدرس والتأمل، وجاءت كتبهم في الذوق والتربية الروحية، لكنهم لم يكونوا في المجمل بعيدين عن الشأن العام. لقد مثل التصوف الأندلسي في عصره الذهبي شكلاً راقيًا من أشكال التهذيب الأخلاقي والتطهير الروحي، وكان بعض السلاطين يجلون مشايخ الصوفية، ويعتبرونهم أصحاب بركة. ومع تزايد التهديدات المسيحية من الشمال، تمسك الناس أكثر بالأولياء والزهاد طلبًا للحماية، وفي أحيان كثيرة، صارت الزوايا مراكز للطمأنينة في مواجهة الرعب والمذابح القادمة.

مع اشتداد الهجوم الإسباني في القرن الخامس عشر الميلادي، وانهيار مملكة بني الأحمر في غرناطة، لم تكن الصوفية قوة حاسمة في المعارك أو في توحيد الصفوف. فقد انقسم التيار الصوفي نفسه بين من آثر الانزواء والذكر والاعتكاف، وبين من نادى بالعودة إلى الله كسبيل للخلاص. وفي حين كان أمراء الممالك الإسلامية يتصارعون ويتنافسون، بقي بعض المتصوفة في عوالمهم الباطنية، يشرحون أسرار الوجود ويبحثون عن الفناء في الله، في وقت كانت فيه الأمة تفنى بين مخالب الاستعمار والشتات. ومع ذلك، لا يمكن تعميم الاتهام. فقد وجد أيضًا من الصوفية من شارك في الدفاع عن الأندلس، ودعا للوحدة، وحث على الجهاد، مثل الشيخ محمد الحداد وأتباعه الذين قاتلوا في غرناطة. بل إن بعض الزوايا تحولت إلى نقاط مقاومة وصمود، وكان دورها اجتماعيًا وإنسانيًا في غاية الأهمية، خاصة في رعاية المهجرين والفقراء بعد سقوط المدن الإسلامية واحدة تلو الأخرى.

إن نهاية الأندلس لم تكن سقوطًا سببه التصوف، وإنما جاءت نتيجة تراكم طويل من الخيانات السياسية، والتفكك الداخلي بين الممالك، وغياب قيادة موحدة، ومؤامرات ملوك الطوائف، فضلًا عن الضغط الصليبي المتواصل الذي كان يستمد قوته من الوحدة والهدف، في حين كان المسلمون منقسمين. لقد سقطت غرناطة في يد فرديناند وإيزابيلا، لا لأن الصوفية كانوا يسبحون، بل لأن السياسة خانت الدين، والسلاطين خافوا من بعضهم أكثر من خوفهم من الأعداء.
حين نُحمّل التصوف مسؤولية ضياع الأندلس، فإننا نغفل عن صورة أشمل. نعم، بعض الصوفية ابتعدوا عن ساحات الفعل واكتفوا بسكون التأمل، لكن في الوقت ذاته، كانت الممالك الحاكمة في غاية الضعف والأنانية. وقد أثبتت التجربة أن الأمة إذا فرطت في وحدتها، وابتعدت عن جوهر دينها، وغرقت في الترف والخلافات، فإن سقوطها أمر محتوم، سواء كان أهلها صوفيين أم لا.

ولم ينتهِ دور الصوفية عند سقوط غرناطة، بل امتد ليحمل بصمته في أرض المغرب والمشرق، حيث نزح كثير من علماء وأولياء الأندلس إلى المغرب العربي، فكانوا لبنات في بناء الحياة الدينية هناك.
أسسوا زوايا جديدة، وعلّموا الناس، وشاركوا في تخفيف الآلام، بل إن بعضهم مثل تلاميذ أبي مدين كانوا وقودًا للصحوة الدينية في فاس وتلمسان وسوس. وظهرت أسماء لصوفية أندلسيين كان لهم فضل كبير في الحفاظ على الهوية الإسلامية وسط حملات التنصير الوحشي. ومن داخل معاناة اللاجئين، ظل صوت التصوف يحمل الأمل، ويحفظ الذاكرة، ويُبقي جذوة الإيمان حيّة.

فالأندلس التي سقطت بالسيف، ظلت حية في القصائد والمجالس والرقائق، وبقيت الزوايا تحفظ أسماء القرى والمدن، وتنقل الحنين من جيل إلى جيل. لم يكن دورهم إذن انسحابًا من الواقع بقدر ما كان انعكاسًا لعمق الصدمة، ومحاولة للنجاة بما يمكن من الروح والعقيدة في زمن استُهدفت فيه الروح والجسد معًا.

لقد كانت الصوفية شاهدًا على أفول الأندلس، لا سببًا مباشرًا له، وفي زمن السقوط، ظل صوتهم الروحي يردد: “لا غالب إلا الله”، الكلمة التي نقشت على جدران قصر الحمراء، لتبقى رمزًا لما كان، وتذكارًا لما يجب ألا يتكرر.