التدين بين النزعة العقلية والإلتزامية

بقلم الشيخ: يوسف عزت الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

 

تمهيد:
في زمن بات فيه الإنسان محاطًا بعشرات الأسئلة المصيرية، وأساليب التفكير المتباينة، والأيديولوجيات المتزاحمة، يعود سؤال “الدين” إلى الواجهة لا بوصفه فقط منظومة إيمانية أو شعائرية، بل بوصفه رؤية شاملة للوجود، ومعيارًا أخلاقيًا، وسندًا روحيًا، وإطارًا فكريًا حاكمًا على مختلف مجالات الحياة.

وفي قلب هذا التساؤل، تتفجر إشكالية التدين:
هل التدين موقف عقلي حر، أم التزام تعبدي صرف؟
وهل يمكن أن يندمج العقل مع الإيمان في تكوين الشخصية المسلمة المتوازنة؟
وهل أفرز العصر الحديث تدينًا مشوهًا نتيجة هيمنة أحد الطرفين على الآخر؟
سنحاول في هذا المقال أن نستعرض هذه الإشكالية بشكل تحليلي شامل، نستعرض فيه الخلفيات الفكرية والشرعية، ونتأمل في الواقع، ونقترح رؤية إصلاحية مستقبلية.

أولًا: ما هو التدين؟ بين المفهوم والتجليات
1. التدين كممارسة لا كمصطلح:
التدين ليس مجرد “اعتقاد” في القلب، بل هو موقف كلي من الحياة، يظهر في علاقة الإنسان بربه، وبنفسه، وبالناس، وبالكون.

هو التعبير العملي عن الانتماء إلى الدين، عبر:
السلوك الظاهري: كالصلاة والصيام والحجاب.
والضوابط الأخلاقية: كالصدق والعدل والحياء.
والتفاعل الوجداني: كالخشوع والخشية والرجاء.

2. التدين كمفهوم ثقافي مركب:
التدين لا ينشأ في الفراغ، بل يتأثر بعوامل كثيرة:
النشأة التربوية.
البيئة الاجتماعية.
الخطاب الديني المحلي.
الاحتكاك الثقافي بالعالم.
الخلفية الفلسفية والفكرية للفرد.
ومن هنا، تختلف “أنماط التدين” من شخص إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ولو تشاركوا في ذات العقيدة.

ثانيًا: النزعة العقلية في التدين
1. التأصيل الشرعي لإعمال العقل:
القرآن مليء بالآيات التي تفتح أبواب الفكر، وتدعو إلى استخدام ملكة العقل في فهم الكون والدين:
“أفلا تعقلون؟”
“إن في خلق السماوات والأرض… لآياتٍ لأولي الألباب”
“قل انظروا ماذا في السماوات والأرض”
وقد سلك النبي ﷺ في دعوته منهجًا يقوم على الإقناع العقلي، ولم يكن خطابه مجردًا من المنطق، بل كان يسأل ويستدل ويقارن ويضرب الأمثال.

2. مظاهر النزعة العقلية:
التفكر في الحكم من وراء الأحكام.
فهم الدين في ضوء المقاصد الكبرى كحفظ النفس والعقل والنسل.
الاشتباك مع الأسئلة الوجودية والفلسفية.
قراءة النصوص قراءة سياقية وتاريخية.

3. مزايا هذا الاتجاه:
يُنتج مسلمًا واعيًا مفكرًا لا أسيرًا للتقليد.
يُجنّب المسلم الانزلاق في خرافات أو غلو.
يفتح أبواب الحوار مع غير المسلمين بلغة العقل.

4. مخاطر الإفراط:
قد يتحول العقل إلى مرجعية مطلقة تحاكم النص.
قد ينزع صاحبه إلى تفكيك الشريعة وتجاوز الحدود.
قد يستسلم للعلمانية الناعمة باسم “الرؤية المعاصرة للدين”.

ثالثًا: النزعة الالتزامية في التدين
1. التأصيل القرآني:
التدين في الأصل هو عبودية وامتثال، والقرآن يرسخ مبدأ الطاعة:
“وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم”
“سمعنا وأطعنا”
والنبي ﷺ يقول:
“كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى… من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى” – [رواه البخاري].

2. مظاهر النزعة الالتزامية:
الامتثال الدقيق للأوامر والنواهي.
احترام سلطة النص بلا تجاوز.
التورع عن الشبهات واتباع سبيل الورع.
الاعتزاز بالتقاليد الإسلامية ومقاومة التغريب.

3. مزايا هذا الاتجاه:
يُنتج شخصية متجردة لله، ثابتة في المبادئ.
يمنح التدين جديته ورهبته ووقاره.
يحقق التماسك النفسي والانضباط السلوكي.

4. مخاطر الإفراط:
الغفلة عن الجوهر والمقاصد، والانشغال بالقشور.
رفض أي اجتهاد جديد ولو كان معتبرًا.
الميل إلى التشدد والتحريم المفرط.
النفور من المخالفين، والانغلاق على الذات.

رابعًا: أزمة التدين في الواقع المعاصر
1. ثنائية التشظي:
يعيش المسلم المعاصر حالة من الارتباك بين النمطين:
البعض تديّنوا بـ”عقل بلا التزام”، فضلّوا أو تميعوا.
وآخرون تديّنوا بـ”التزام بلا وعي”، فتشددوا أو انغلقوا.

2. مظاهر الخلل:
تدين شبكي سطحي قائم على “بوست” أو “فيديو قصير”.
تدين موسمي يظهر في رمضان أو الأزمات فقط.
تدين نفاقي يمارسه البعض لمصالح دنيوية.
تدين عدائي ينفر الناس بسبب سوء الخلق والفظاظة.

خامسًا: كيف نبني تدينًا متوازنًا؟
1. بالجمع بين العلم والعمل:
لا بد من علم راسخ بالنصوص والفقه والعقيدة.
ولا بد من عمل ظاهر وباطن يعكس الإيمان الحق.

2. بالجمع بين التأمل والتسليم:
نسأل ونفكر ونتدبر، دون أن نُسقط هيبة الوحي.
نُسلّم ونتبع، دون أن نُغلق باب العقل.

3. بتجديد الخطاب الديني:
نحتاج خطابًا يجمع بين الأصالة والمعاصرة.
يتحدث بلغة العصر، ويحمل روح القرآن.
يحاور لا يهاجم، يُقنع لا يُكره.

4. بإصلاح منابر التعليم والدعوة:
نحتاج إلى دعاة وسط، علماء ربانيين، يعرفون الواقع.
لا نحتاج منفرين، ولا متساهلين.
نحتاج من يتحدث بفهم، ورحمة، ورسالة.

خاتمة:
إن التدين في حقيقته ليس صراعًا بين العقل والنص، ولا بين الحرية والطاعة، بل هو تناغم بين القلب والعقل والجسد في طريق العبودية لله.
هو مشيٌ نحو الله على قدمَي التفكر والامتثال.
وإذا أردنا أن نعيد للإسلام بريقه في حياة المسلمين، فلنبدأ بإصلاح “نمط التدين”، لا بترك الدين.

علينا أن نربّي أجيالًا تعقل ما تؤمن به، وتؤمن بما تعقله.
جيلًا إذا صلى عرف لماذا يصلي، وإذا سجد أحسّ بعظمة من سجد له، وإذا اتبع الرسول، فبمحبة وبصيرة.
تدينٌ بلا غلو، ولا تفلت. بلا سطحية، ولا تعصب.
بل تدين فيه نور الفهم، وحرارة الحب، وعظمة الطاعة.