بقلم الشيخ : صالح علي صالح الفقي الموجه العام بوعظ الأزهر الشريف – ومشرف لجان فتوى الأزهر بمنطقة وعظ كفر الشيخ سابقا
في زمن تزدحم فيه القلوب بالضغوط، يصبح الاحتواء أعظم صدقة تقدمها لمن حولك.
الاحتواء ليس مجرد استماع، بل إصغاء بروح محبة، واحتضان لنقائص الآخرين برحمة ووعي.وكم في بيوتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا من نفوس تحتاج هذا الاحتواء والرحمة لا العصبية والتناطح!
* الاحتواء ليس مجرد سلوك طارئ، بل هو فن من فنون الرحمة، ورسالة تعايش راقية، تُمارسها الأرواح النبيلة التي أدركت أن الناس ليسوا سواءً في طباعهم، ولا في مشاعرهم، ولا في طريقة تعبيرهم عن الألم أو الفرح.
* بال أعرابي في المسجد، فقام الصحابة ليزجروه، فقال ﷺ: “دعوه، وأريقوا على بوله ذنوبًا من ماء”
احتواء راقٍ حول الجهل إلى أدب، والغضب إلى دعاء، حتى قال الرجل: “اللهم ارحمني ومحمّدًا، ولا ترحم معنا أحدًا!”
* وشابٌ يستأذن في الزنا، فلم يطرده النبي ﷺ، بل احتواه بسؤال ورفق، حتى خرج وقد تبدّلت نفسه.
أن تحتوي شخصًا يعني أن تمنحه مساحة آمنة للتعبير دون خوف، وأن تصغي لقلبه قبل كلماته، وأن تكون ظلًّا وارفًا إذا اشتدت عليه شمس الحياة. الاحتواء لا يُشترى، ولا يُعلَّم بسهولة، لكنه يُكتسب من رُقيّ النفس، وصدق المشاعر، ونُضج العقل.
في الأسرة، يكون الاحتواء علاجًا لكثير من المشكلات؛ فالكلمة الطيبة، ونبرة الحنان، ونظرة الفهم، قد تردُّ ضالًّا، أو تصلح معوجًّا. وفي العمل، يُعدُّ الاحتواء من أسرار القيادة الناجحة، فالمسؤول الحكيم يحتوي مرؤوسيه، فيكسب ولاءهم وإبداعهم.
إننا في زمن كثرت فيه الضغوط، وقلَّت فيه الأذن الصاغية، فصار الاحتواء عملة نادرة، لكنه لا يزال مفتاحًا من مفاتيح السكينة، ووسيلة فعالة لصناعة جسور من التفاهم والمحبة.