إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ لهُ ولا معينْ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، ربُّ الأرضِ والسماء،ِ وخالقُ كلِّ شيءٍ مبينْ. وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ خلقِ اللهِ أجمعين، ونورُ الهدى للمتَّقينْ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ الكرامِ الغُرِّ الميامينْ، ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينْ، وبعد:
أيها المسلمون، عباد الله:
نقف اليوم لنتأمل في سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، صحابي جليل، مع سيرة رجل لم يكن مجرد صحابي جليل فحسب، بل كان عقلًا استراتيجيًا، وعالمًا فذًا، إنه حبر الأمة، وترجمان القرآن، إنه عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمل أن يكون الحديث تحت عنوان: (لله دَرُّك يا ابن عباس).
هل تعلمون أنه وُلد في شعب أبي طالب، في الفترة العصيبة التي حوصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون؟ هذا يعني أنه نشأ في وقت التحديات، وشاهد الصبر والمعاناة منذ نعومة أظافره، وُلِد قبل الهجرة بـ 3 سنوات بالضبط، وتُوفي سنة 68 هجرية، أي أنه عاش مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب 13 عامًا من عمره، وهي فترة حاسمة في بناء الإسلام.
والدته: هي أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية، كانت أول امرأة بعد خديجة تسلم من بني هاشم، وهذا يعكس بيئة إيمانية فريدة نشأ فيها.
لقد نشأ عبد الله بن عباس في بيت النبوة، وفي كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان منذ صغره شديد الحرص على ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم للتعلم منه مباشرة، ولم يكن يُفوِّت فرصة للاستماع إلى حديثه الشريف، ومشاهدة أفعاله المباركة، والتشرب من هديه النبوي، هذا الحرص المبكر، وهذا القرب من منبع النبوة، هو الأساس المتين الذي بنى عليه ابن عباس علمه الغزير فيما بعد، فكان من القلائل الذين حظوا بهذه الفرصة العظيمة في التلقي المباشر.
ولم يكن حرصه وحده كافيًا، بل جاء دعاء عظيم مبارك من رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حيث قال: “اللهم فقِّهه في الدين، وعلِّمه التأويل” [أخرجه أحمد (2397)]، وما كان هذا الدعاء النبوي الشريف ليذهب سدى، لقد وهب الله ابن عباس بصيرة نافذة، وذكاءً خارقًا، وفهمًا عميقًا لكتابه، وسنة نبيه، حتى أصبح منارة للعلم والهدى في الأمة.
ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، ذهب ابن عباس ليكمل مسيرته في طلب العلم، فأخذ يطلب العلم عن أصحاب رسول الله، حتى حكى عن نفسه: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ يَا فُلَانُ هَلُمَّ، فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ». فَقَالَ: واعجبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ، وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَرَى؟ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِيهِ، وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ، فَتَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ، فَيَخْرُجُ، فَيَرَانِي، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ مَا جَاءَ بِكَ؟ أَلَا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ: فَبَقِيَ الرَّجُلُ حَتَّى رَآنِي، وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «كَانَ هَذَا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي». [رواه الدارمي في مسنده (590)].
وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يجلسه معه في مجالس الكبار، ومجلس شورته مع كبار علماء الصحابة، وهو غلام صغير، حتى غار بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من جلوسه معهم، حتى قال رضي الله عنهما: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الفَتَى مَعَنَا، وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قَالَ: وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللهَ، وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا، وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم أَعْلَمَهُ اللهُ لَهُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}: فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} قَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاَّ مَا تَعْلَمُ”. [رواه البخاري (4294)].
لقد برع ابن عباس رضي الله عنه في علوم شتى، فكان حبر الأمة، وترجمان القرآن بامتياز، وهي ألقاب لم تأتِ من فراغ، بل من إتقانه، وشمولية علمه، فكان عالمًا بالتفسير، يفهم دقائق الآيات وسياقاتها، وأسباب نزولها.
وكان فقيهًا مجتهدًا، يستنبط الأحكام من نصوص الشرع بفهم عميق.
وكان متمكنًا من اللغة العربية، بكنوزها من الفصاحة، والبلاغة والشعر، مما أعانه على فهم مراد الله ورسوله.
كما كان على دراية واسعة بأنساب العرب وأيامهم وأخبارهم، وهي علوم تعين على فهم التاريخ والسيرة النبوية، ولله درُّ القائل:
في حبرِ الأمةِ والعلمِ المنيرْ *** يا ابنَ عباسٍ يا بدرًا أضاءَ المدى
ويا نجمًا في سماءِ العلمِ قد سَطا *** حبرَ الأمةِ في كلِّ حينٍ أبدَا
لم يكن مجرد حافظ للقرآن، بل كان غواصًا على معانيه وأسراره، حتى أصبح مرجعًا لأكابر الصحابة، والتابعين في فهم كتاب الله، يقصدونه من كل حدب، وصوب لينهلوا من علمه.
مناظرة ابن عباس للخوارج، قوة الحجة لا قوة السلاح:
إن تجلي حكمة وعلم ابن عباس رضي الله عنهما يبرز بوضوح في موقفه الحاسم والفريد مع الخوارج، هذه الفرقة التي ظهرت في زمن مبكر من تاريخ الإسلام، بعد معركة صفين، حاملةً فكرًا متشددًا منحرفًا عن منهج أهل السنة والجماعة، كان جوهر فكرهم يقوم على تكفير المسلمين بالذنوب، والقول بخروج مرتكب الكبيرة من الملة، وشق عصا الطاعة على ولاة الأمر، والخروج عليهم بالسيف، مما هدد استقرار المجتمع، ووحدة الأمة.
كان هذا الفكر الضال يمثل هُوَّة عميقة تهدد بجر الأمة إلى الشقاق والفرقة والاقتتال الداخلي، وهنا يبرز دور حكمة ابن عباس رضي الله عنهما، وعلمه الغزير في التصدي لهذا الخطر الفكري.
لم يواجه ابن عباس الخوارج بالسيف مباشرة كما فعل غيره في النهاية، بل واجههم بما أوتي من علم راسخ، وفهم عميق، وحوار هادئ وبنَّاء، أرسله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمناظرتهم بعد أن استأذن ابن عباس عليًا في ذلك، ذهب إليهم، ليس بجيش، ولا بسلاح، بل بحجة وبرهان، ونور من الله.
قال لهم: “جئتكم من عند أمير المؤمنين، ومن عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى فيكم أحدًا منهم، ولأبلغنكم ما قالوا، ولأبلغنهم ما تقولون، فما تنقمون من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره؟ فأقبل بعضهم على بعض، فقالوا: لا تكلموه فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون} [الزخرف: 58]، وقال بعضهم: ما يمنعنا من كلامه، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعونا إلى كتاب الله”، كان متواضعًا في بداية حواره، مستمعًا قبل أن يتكلم، وهو أدب العلماء والحكماء.
فبدأت المناظرة، حيث طرح الخوارج شبهاتهم، وكان أهمها ثلاث شبهات رئيسية، رد عليها ابن عباس رضي الله عنهما بعلمه الذي حواه، مستخدمًا القرآن، والسنة، والعقل:
الشبهة الأولى: الاعتراض على التحكيم
الشبهة التي طرحوها: زعم الخوارج أن عليًا رضي الله عنه قد أشرك بالله تعالى بتحكيم الرجال (أبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص) في دين الله، في قضية الخلاف بينه وبين معاوية، واستدلوا بقولهم: “لا حكم إلا لله” تأويلاً خاطئاً لآيات القرآن الكريم.
الرد الحكيم من ابن عباس: واجههم ابن عباس بآيات من القرآن الكريم نفسها، ليبين لهم خطأ استدلالهم وفهمهم. قال لهم: “أما قولكم: حكَّم الرجال، فقد حكَّم الله عز وجل في ثمن ربع درهم من الأرنب، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [المائدة: 95]، فجعل التحكيم بين رجلين (أي في أمر عظيم مثل دم الصيد في الحرم). وفي المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35]. فما تنكرون أن يكون التحكيم جائزًا في صلاح ذات البين، وحقن الدماء، وهو أمر أعظم من دم أرنب، أو نزاع بين زوجين؟!، ثم قال لهم: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم”.
بهذه الحجة القرآنية الدامغة، بيّن لهم أن التحكيم ليس شركًا، بل هو منهج قرآني كريم في حل النزاعات، وحقن الدماء، وأن حكم الله هو الذي اقتضى أن يكون التحكيم بين البشر في مسائل النزاع.
الشبهة الثانية: الاعتراض على قتال أهل الجمل وصفين، وعدم سبيهم
الشبهة التي طرحوها: رأى الخوارج أن قتال علي لأهل الجمل وصِفِّين (وهم من المسلمين) كان يستوجب منهم معاملتهم معاملة الكفار في الحرب، أي سبي نسائهم، وأخذ غنائمهم، وبما أن عليًا رضي الله عنه لم يفعل ذلك، اعتبروا أن هذا دليل على أنه لم يطبق حكم الله، وأنهم (الخوارج) أشد منه تمسكًا بالشرع.
الرد الحكيم من ابن عباس: واجههم ابن عباس بسؤال حاسم، ومحرج لم يجدوا له جوابًا، بل أوقعهم في ورطة التناقض. قال لهم: “هل تسْبون أمكم عائشة؟ فوالله لئن قلتم: سبيناها، لقد كفرتم. ولئن قلتم: ليست بأمكم، فقد كفرتم، فإنها أم المؤمنين. فاختاروا واحدة من اثنتين!”. بهذا السؤال المحكم، ألزمهم الحجة، فهم لا يستطيعون تكفير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أو نفي أمومتها عنهم، لأن القرآن نص صراحة على أنها أم للمؤمنين، وهذا يلغي تمامًا فكرة سبيها، أو سبي أيٍّ من الصحابيات، مما يبطل شبهتهم، ويظهر تناقضهم، ثم قال لهم: “أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم”.
الشبهة الثالثة: الاعتراض على نزول علي عن الإمارة بعد التحكيم
الشبهة التي طرحوها: اعتبر الخوارج أن عليًا رضي الله عنه قد خلع نفسه، ومحا اسمه من الإمارة بقبوله للتحكيم، وبالتالي لم يعد له الحق الشرعي في قيادة المسلمين.
الرد الحكيم من ابن عباس: بيّن لهم أن عليًا لم ينزل عن الإمارة، وأن التحكيم كان لفض النزاع، وإنهاء الاقتتال بين المسلمين، وليس تنازلاً عن حقه الشرعي في الخلافة، أو خلعًا لنفسه، بل هو اجتهاد شرعي لحقن دماء المسلمين، وهو أصل من أصول الشريعة.
فقال لهم: “وأما قولكم: إنه محا اسمه من أمير المؤمنين، فإني أنبئكم عن ذلك: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية جرى الكتاب بينه، وبين سهيل بن عمرو، فقال: “يا علي اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم “، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك، واسم أبيك، فقال: “اللهم إنك تعلم أني رسولك”، ثم أخذ الصحيفة، فمحاها بيده، ثم قال: “يا علي اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله”، فوالله ما أخرجه ذلك من النبوة، أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم.
قال: فرجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقُتل سائرهم على ضلالة”.
لقد كانت حجة ابن عباس قوية، مبنية على فهم دقيق لكتاب الله، وسنة رسوله، وعلى بلاغة البيان، ووضوح الحجة.
استطاع أن يبدد الكثير من الشبهات التي كانت تعشعش في أذهانهم بسبب جهلهم، وسوء فهمهم، فكانت النتيجة المذهلة أن رجع ثلثهم، وانصرف ثلثهم، وقدر عددهم: أربعة آلاف، رجعوا عن فكرهم المتطرف، واعترفوا بالحق الذي وضَّحه لهم ابن عباس، وهذا ما يشهد له التاريخ، أما الطائفة التي أصرت على غيها وعنادها، فكانت نهايتهم مختلفة، حيث اضطر علي رضي الله عنه لقتالهم بعد أن أصروا على ضلالهم.
كيف نستفيد من فكر ابن عباس في مواجهة الأفكار المتطرفة اليوم؟
أيها المسلمون، عباد الله:
إن منهج الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مواجهة الخوارج يمثل خارطة طريق عملية وفعالة لمجابهة الأفكار المتطرفة في عصرنا الحاضر، إنه منهج يقوم على العلم، والفهم العميق، والحوار البناء، وإظهار سماحة الإسلام، فلنتأمل كيف يمكننا تطبيق هذه الركائز الأساسية في واقعنا اليوم:
1- التسلح بالعلم الشرعي الراسخ، والتحصيل الدقيق:
لا شك أن الجهل هو الأرض الخصبة التي تنمو فيها بذور التطرف والغلو، فالأفكار المتطرفة غالبًا ما تستند إلى فهم خاطئ أو ناقص للنصوص الشرعية، لذا، فإن أول خطوة في مواجهة هذه الأفكار: هي التسلح بالعلم الشرعي الصحيح، تمامًا كما كان ابن عباس متمكنًا من علوم القرآن والسنة.
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، هذه الآية تؤكد الفارق الجوهري بين العالم والجاهل، وأن الفهم السليم لا يكون إلا لأصحاب العقول المستنيرة بالعلم، فيجب على الشباب بصفة خاصة أن يبادروا بطلب العلم من مصادره الموثوقة، ومن العلماء الراسخين، لا من قنوات مجهولة، أو أشخاص غير مؤهلين.
2- الفهم العميق والشامل للنصوص الشريعة وعدم الاجتزاء من نصوصها:
إن الأفكار المتطرفة غالبًا ما تنشأ من تجزئة النصوص، أو الأخذ ببعضها، وترك بعضها الآخر، أو فهمها بمعزل عن سياقها العام، ومقاصد الشريعة، منهج ابن عباس كان يقوم على الفهم الشمولي للقرآن والسنة، وربط الآيات بعضها ببعض، وفهم أسباب النزول، والأحاديث في سياقها الصحيح.
يقول الله تعالى محذرًا من هذه التجزئة: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85]، هذه الآية تُبيِّن خطورة الأخذ ببعض الدين وترك بعضه، وهو ما يقع فيه المتطرفون الذين ينتقون النصوص التي تخدم أفكارهم، ويتركون ما يخالفها.
3- الحوار الهادئ البنَّاء والعقلاني القائم على الحجة:
لقد كان منهج ابن عباس في مناظرته للخوارج نموذجًا فريدًا في الحوار الهادف، لم يقابلهم بجيش من الأسلحة، بل قابلهم بجيش من العلم والحجة، لم يقابلهم بالعنف اللفظي، أو التكفير المباشر، بل جلس معهم، استمع إليهم، ثم فنَّد شبهاتهم بالحجة والبرهان، هذا النهج يفتح آفاقًا للتصحيح والتوجيه لمن لديه قابلية للرجوع إلى الحق.
يقول الله تعالى آمرًا بالحوار بأحسن طريقة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: 125]، هذه الآية هي دستور الحوار في الإسلام، فالحكمة تأتي أولًا، ثم الموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن، وهذا ما طبقه ابن عباس بامتياز.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعدَ هُدَى كَانُوا عَلَيهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَل” [رواه الترمذي، وابن ماجه]، هذا الحديث يحذر من الجدل المذموم الذي يقود إلى الفرقة والخلاف، ويؤكد على أهمية الجدال البناء الذي يهدف إلى إظهار الحق، وتوحيد الكلمة، كما فعل ابن عباس، فالحوار ينبغي أن يكون قائمًا على طلب الحقيقة لا على الانتصار للرأي.
4- إظهار سماحة الإسلام واعتداله:
الفكر المتطرف يُشوِّه صورة الإسلام، ويظهره على غير حقيقته، لذا، فمن واجبنا أن نبرز سماحة ديننا واعتداله ووسطيته، في أقوالنا وأفعالنا وتعاملاتنا، ابن عباس بقدومه بثيابه الحسنة، وحواره الهادئ، أظهر سمات الإسلام الحقيقية التي تخالف الغلو والتشدد.
يقول الله تعالى في وصف هذه الأمة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].
الوسطية: هي السمة البارزة لهذه الأمة، وهي تعني البعد عن الإفراط والتفريط، والتطرف والغلو، وهذا ما يجب أن نتحلى به، ونظهره للناس.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا” [رواه البخاري (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه]، هذا الحديث النبوي يؤكد على سماحة الإسلام ويسره، وأن التشدد فيه يؤدي إلى الانقطاع والضعف. لذا، فإن عرض الإسلام بصورته السمحة المعتدلة هو أقوى وسيلة لمواجهة الفكر المتطرف الذي ينفر الناس من الدين.
أيها المسلمون: إن منهج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما هو منهج نبوي أصيل، يضع بين أيدينا أدوات قوية لمواجهة الأفكار الشاذة والمتطرفة، إنه دعوة للتعلم، والتدبر، والحوار، وإظهار جمال الإسلام وروعته، فلنقتدِ به، ولنكن حصونًا منيعة أمام كل فكر يهدف إلى تمزيق وحدتنا وتشويه ديننا.
(لله دُّرك يا ابن عباس)، لقد أديت الأمانة، وكنت نورًا هاديًا للأمة، وحصنًا منيعًا أمام الشقاق والخلاف، فهل نقتدي به في حمل هذه الأمانة العظيمة اليوم؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.