حين يغرق الضمير… قراءة في زمن الغش المقنّع
15 ديسمبر، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس بدرجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
نعيش اليوم في زمنٍ يشبه الغرق البطيء، لا نسمع له صوتًا ولا نرى له أمواجًا، لكنه يبتلع القيم واحدة تلو الأخرى. غشٌّ يتسلل إلى تفاصيل حياتنا اليومية حتى صار مألوفًا، وخداعٌ يرتدي ألف قناع، فيُقدَّم أحيانًا على أنه شطارة، وأحيانًا على أنه ضرورة، وأحيانًا على أنه «الطريقة الوحيدة للعيش». هكذا وجدنا أنفسنا داخل واقع مرتبك، تُمسَخ فيه المعاني، ويُشوَّه فيه الصدق، ويُتَّهَم فيه الشريف بالبساطة، ويُرفَع المخادع إلى مصاف الأذكياء.
في الأسواق يُخفى العيب وتُزيَّن الرداءة، وفي التعليم تُسرق الإجابات وتُشترى الشهادات، فيخرج جيل يحمل أوراقًا بلا علم، وألقابًا بلا كفاءة. في العمل تُؤدَّى المهام بروح باردة، ويُبحث عن الراتب قبل الإتقان، وعن المنفعة قبل الواجب. حتى العلاقات الإنسانية لم تنجُ من هذا المستنقع؛ وعود بلا نية، وكلمات بلا صدق، وابتسامات تخفي حسابات، ومشاعر تُستعمل ثم تُلقى جانبًا.
الأخطر من الغش نفسه هو تبريره، حين يتحول الخطأ إلى قاعدة، والاستثناء إلى سخرية. حين يُقنَع الناس أن النزاهة لا تطعم خبزًا، وأن الأمانة رفاهية لا تناسب هذا الزمن، وأن من يسير مستقيمًا لا بد أن يُدهَس. هنا لا يكون الغش مجرد سلوك، بل يصبح ثقافة عامة، ويصير الخداع لغة غير معلنة يتحدث بها الجميع دون اتفاق.
ومع ذلك، ورغم كل هذا السواد، لا يزال هناك من يقاوم الغرق. قلة ربما، لكنها موجودة. أناس يصرّون على الصدق ولو خسروا، وعلى الأمانة ولو تأخروا، وعلى النزاهة ولو ساروا وحدهم. هؤلاء لا يصنعون ضجيجًا، لكنهم يصنعون معنى. لا يلمعون سريعًا، لكنهم يبقون طويلًا. فهم يدركون أن النجاح القائم على الغش هشّ، وأن البنيان الذي يُشاد على الخداع ينهار عند أول اختبار.
وفي النهاية، لا يمكن لهذا الغرق الأخلاقي أن يكون قدرًا أبديًا نُسلِّم له دون مقاومة. قد يطول الليل، وقد يبدو التيار جارفًا، لكن كل زمن له نهاية، وكل موجة مهما علت لا بد أن تنكسر. الخلاص لا يبدأ من القوانين وحدها، ولا من الشعارات الكبيرة، بل من الإنسان نفسه؛ من قراره اليومي ألا يكون جزءًا من الكذبة، وألا يضيف قطرة جديدة إلى بحر الخداع. من تاجر يرفض الغش ولو خسر صفقة، ومن طالب يختار التعب بدل السرقة، ومن موظف يؤدي عمله بإخلاص ولو لم يُصفَّق له.
لسنا مطالبين بتغيير العالم دفعة واحدة، لكننا مطالبون ألا نخونه. أن نُمسك بطوق النجاة الوحيد في هذا الزمن: الضمير. أن نُعلّم أبناءنا أن الكرامة لا تُزوَّر، وأن الطريق المستقيم قد يكون أطول، لكنه الوحيد الآمن. سيأتي يوم ينحسر فيه هذا الغرق، وتسقط الأقنعة، ويُسأل كل إنسان عمّا كان عليه: هل كان موجةً في بحر الغش، أم صخرةً صامدة كسرت اندفاعه؟ وعندها فقط سندرك أن النجاة الحقيقية لم تكن في الخداع، بل في الصدق، ولم تكن في المراوغة، بل في الثبات على الحق.