“لا رأيَ لحاقن”.. قراءة في البعد النفسي والفكري – عبد الله رشدي نموذجًا
28 أكتوبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حسين حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
تمهيد
قال الإمام عليّ بن أبي طالب – عليه السلام – كلمته الجامعة الموجزة: «لا رأيَ لحاقن»، وهي حكمة تختصر فهمًا عميقًا لطبيعة النفس البشرية قبل أن تُعرف علوم النفس بمناهجها الحديثة.
لم يكن الإمام – كرم الله وجهه – يتحدث عن حالةٍ جسديةٍ عارضة، بل عن عُطالةٍ نفسيةٍ تصيب الفكر حين يُحتبَس الداخل، فيتعطّل الوعي، ويضطرب الحكم، وتختلّ الرؤية.
فالاحتباس الذي أشار إليه الإمام ليس احتباس البول فحسب، بل هو احتباس الشعور والفكر والانفعال. فكلّ من حُبس داخله شيءٌ ولم يُعبّر عنه تحوّل رأيه إلى صدى لاضطرابه، لا لصوابه.
ومن هذا المنطلق النفسي العميق، يمكن قراءة بعض النماذج المعاصرة التي تبدو متناقضة في خطابها الديني والفكري، لكنها في حقيقتها أسيرةُ احتباسٍ تربويٍّ ونفسيٍّ وعقائديٍّ. ومن أبرز هذه النماذج: عبد الله رشدي.
الاحتباس النفسي بوصفه مدخلًا للفهم
الإنسان حين يُربّى في بيئة مغلقةٍ مشبعةٍ بالمنع والكبت، يعتاد أن يعيش في دائرة ضيقة لا يسمع فيها إلا صدى صوته أو صوت السلطة التي تُوجّه وعيه.
فإذا كبر، ظنّ أن كل خروجٍ عن هذه الدائرة خطر، وكل انفتاحٍ تهديد، فيتحول الدفاع عن الثوابت – وإن كانت اجتهادية – إلى آليةٍ لا شعوريةٍ للدفاع عن الذات.
وهنا نفهم أن عبارة الإمام علي «لا رأي لحاقن» لا تعني فقدان القدرة الجسدية على التفكير، بل انقباض النفس الذي يُعطّل الرأي ويشوّه الإدراك.
عبد الله رشدي.. نتاج بيئةٍ مغلقة
نشأ عبد الله رشدي في بيتٍ يتشابك فيه السلطان الأبويّ بالتشدد العقديّ، تحت ظلال والده محمد رشدي السعداوي – صاحب كتاب الكوكب الدري – الذي مثّل امتدادًا هادئًا للفكر السلفي الوهابي في ثوبه المصري.
في هذا الجوّ المغلق، لم يُتح للطفل أن يتنفس حرية السؤال أو يتذوق تنوع الفكر الأزهري، فامتلأ وجدانه بمزيجٍ من الولاء والكبت، والانبهار والرغبة في التمرد.
لم تُحل هذه الثنائية، فظلت في لا وعيه تنتج نوعًا من الاحتقان العقائدي، يظهر في لغته الانفعالية، وصدامه المستمر مع المخالفين، لا سيّما الصوفية ومنهج الأزهر الوسطي.
من صراع الأب إلى صراع الرمز
كل مرة يكتب فيها عبد الله رشدي عن التوسل أو زيارة الأولياء، لا يهاجم الفكرة بقدر ما يهاجم صورة الأب التي لا تزال تسكنه.
فهو في ظاهره يعلن التحرر من الفكر الوهابي، لكنه في باطنه يعيد إنتاجه في صورةٍ أكثر صخبًا وحدّة.
كأن كل مقطعٍ يصوره وكل فتوى يثير بها الجدل ليست إلا محاولة لإثبات الذات أمام “الأب الرمزي” الذي لم يتح له أن يكون مستقلاً عنه.
وهكذا تحولت خطابه إلى صرخةٍ مموهةٍ باليقين، يخفي وراءها اضطرابًا وجدانيًّا لم يُحل.
فكل صرامةٍ فقهيةٍ في لغته قناعٌ لخوفٍ دفين، وكل يقينٍ يعلنه يخفي وراءه ارتباكًا لا يريد الاعتراف به.
الأزمة ليست فكرية بل نفسية
إن أزمة عبد الله رشدي ليست في الفقه أو في المذهب، بل في البنية النفسية للخطاب الديني المأزوم، الذي يُعاد إنتاجه جيلاً بعد جيل من غير مراجعةٍ حقيقيةٍ للذات.
فالمشكلة لا تكمن في اختلافه مع التصوف أو الأزهر، بل في عجزه عن تجاوز عقدة الأب ورمز السلطة الأولى.
فهو حين يهاجم التصوف، يهاجم في الحقيقة صوتًا داخليًّا يقول له: “ما زلتُ أراك صغيرًا لم تفهم بعدُ سرّ الروح، فتكفّر ما تجهل، وتستنكر ما لم تذق.”
نحو قراءة تربوية إصلاحية
إن معالجة هذه الحالة لا تكون بالهجوم الشخصي أو التشهير الإعلامي، بل بإعادة بناء الوعي الديني على أساسٍ من الحرية الروحية والانفتاح العلمي.
فالأزهر الشريف – بمنهجه الوسطي – يملك القدرة على احتواء هذه النماذج إن أحسن قراءة أزمتها لا بوصفها خصومة فكرية، بل حالة إنسانية تحتاج إلى تصالحٍ مع الذات قبل الحوار مع الغير.
إن “الحاقن” في الفكر والدعوة هو من لم يفرغ شحنته النفسية بالتزكية، فيتحول علمه إلى جدل، وفقهه إلى خصومة، ودعوته إلى صراع.
خاتمة
إن قول الإمام عليّ – عليه السلام – «لا رأيَ لحاقن» ليس مجرد حكمة عابرة، بل منهج في فهم النفس والدعوة.
فمن لم يُطهّر باطنه من الاحتقان، لا يمكن أن يُنير ظاهر الناس بالهداية.
ولذلك تبقى الحكمة الخالدة مفتاحًا لكل مصلحٍ يريد أن يقرأ الدعوة بعيونٍ صافيةٍ من عقد الماضي وضجيج الأنا.