عَرَفْتَ فَالْزَمْ


بقلم فضيلة الشيخ : أَحْمَدَ إِسْمَاعِيلَ الْفَشَنِيِّ
من علماء الأزهر الشريف

الحمدُ للهِ الذي يَقْذِفُ النورَ في قلوبِ أوليائِه فيُبصِرون، ويَكشِفُ لهم عن حقائقِ الأمورِ فيوقِنون، ويُذيقُهم حلاوةَ الإيمانِ فيثبُتون. والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِنا مُحمَّدٍ، الذي كان يدعو فيقول: “اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا” (رواه البخاري ومسلم)، وعلى آلِه وصحبِه الذين ذاقوا فعَرَفوا، فلَزِموا وما انحرفوا.

أيُّها السادةُ الكرامُ، إنَّ للإيمانِ ظاهرًا وباطنًا. ظاهرُهُ قولٌ باللسانِ وعملٌ بالأركانِ، وهذا حالُ عُمومِ المؤمنين. أمّا باطنُهُ وحقيقتُهُ، فهو نورٌ يَقذِفُهُ اللهُ في القلبِ، ويقينٌ راسخٌ يُغيِّرُ نظرةَ العبدِ للكونِ كلِّه. هو مَقامٌ لا يُنالُ بكثرةِ العِلمِ فقط، بل بصِدْقِ التوجُّهِ وصفاءِ السَّرِيرَةِ.

إنها لحظةٌ فارقةٌ ينتقلُ فيها العبدُ مِنْ “عِلْمِ اليَقِينِ” إلى “عَيْنِ اليَقِينِ”. يسألُ فيها الصادقُ نفسَه: ما هي حقيقةُ إيماني؟ فيأتيهِ الجوابُ مِنْ داخلِ قلبِه، لا مِنْ حِبْرِ كُتُبِه.

أيُّها السادةُ الكرامُ: حقيقةُ المَعْرِفَةِ

إنَّ لهذا النورِ الإيمانيِّ عَلامَاتٍ تدلُّ عليه، وآثارًا تَشْهَدُ لِصاحِبِه:

العلامةُ الأولى: هَوَانُ الدُّنيا على القلبِ:

أوَّلُ ما يُشرِقُ به هذا النورُ هو إطفاءُ وَهَجِ الدُّنيا في عينِ صاحبِه. حين يرى العبدُ الأمورَ على حقيقتِها، تَعْزِفُ نفسُهُ عن هذه الفانيةِ. لا يعني هذا تَرْكَ العملِ أو السَّعْيِ، فإنَّ يدَ المؤمنِ تعملُ وتَكْسِبُ، ولكنَّ قلبَهُ لا يتعلَّقُ. يَستوِي عندَهُ حينئذٍ ذهبُها وحجرُها؛ لأنَّه يَعلمُ أنَّ كليهما إلى زوالٍ.

وهذا حالُ سيِّدِنا الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ رضي اللهُ عنه، حين بَعَثَ إليه تاجرٌ بآلافِ الدراهمِ، فوزَّعها كلَّها في يومِه، ولم يُبقِ لبيتِه شيئًا. فقيل له، فقال: (إنَّما مَثَلِي ومَثَلُ الدنيا كمَثَلِ راكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثم قامَ وتركَها). لقد استوى عندَه العطاءُ والمنعُ، لوجودِ ما هو أعظمُ في قلبِه.

وقد صدَقَ القائلُ حين وَصَفَها:

إِنَّمَا الدُّنْيَا فَنَاءٌ … لَيْسَ لِلدُّنْيَا ثُبُوتُ

إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتٍ … نَسَجَتْهُ العَنْكَبُوتُ

العلامةُ الثانيةُ: استحضارُ الغيبِ كأنَّهُ شَهَادَةٌ:

إذا صَفَا القلبُ، أصبحَ كالمِرْآةِ المَجْلُوَّةِ التي تنعكِسُ عليها أنوارُ الغيبِ. فينتقلُ المؤمنُ مِنْ دائرةِ “السَّماعِ” عن الجنةِ والنارِ، إلى دائرةِ “المُشَاهَدَةِ” القلبيَّةِ. وهذا هو عينُ مَقامِ “الإحسانِ” الذي وَصَفَهُ سيِّدُنا رسولُ اللهِ ﷺ حين سألَهُ سيِّدُنا جبريلُ عليهِ السلامُ: “ما الإحسانُ؟ قال: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ” (رواه مسلم).

لقد كان السَّلَفُ الصالحُ يعيشونَ بهذه الحقيقةِ؛ فهذا سيِّدُنا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنه يقولُ: “لو كُشِفَ الغِطَاءُ ما ازْدَدْتُ يَقِينًا”.

وهذا سيِّدُنا عُمَرُ بنُ عبدِ العَزِيزِ رضيَ اللهُ عنه، وَجَدُوهُ يومًا يبكي، فسألُوهُ، فقال: “كنتُ مُفكِّرًا في أهلِ الجنةِ كيف يتزاوَرونَ فيها، وفي أهلِ النارِ كيف يَصْطَرِخُونَ فيها، ثم بَكَى”.

وقد سُئِلَ سيِّدُنا الإمامُ الجُنَيْدُ رضيَ اللهُ عنه: بِمَ يَنالُ العبدُ هذه الدرجةَ؟ فقال: “أن تموتَ عنكَ، وتَحيا به”.

وقال الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمَهُ اللهُ: “واللهِ ما صَدَّقَ عبدٌ بالنارِ قَطُّ إلا ضاقَتْ عليهِ الأرضُ بما رَحُبَتْ”.

أيُّها السادةُ الكرامُ: “فَأَلْزَمْ”

إنَّ الوصولَ إلى هذه المعرفةِ هِبَةٌ ربَّانيَّةٌ، ونورٌ إلهيٌّ، ولكنَّها ليستْ نهايةَ الطريقِ، بل هي بدايةُ المسؤوليَّةِ. فإِنَّ مَنْ عَرَفَ، كان لِزامًا عليهِ أنْ يَلْزَمَ.

” عَرَفْتَ فَالْزَمْ ” … يا لهُ مِنْ أمرٍ جامعٍ!

أمرٌ بالثَّباتِ على هذا النورِ، والحِفَاظِ على هذا اليَقِينِ.

ولهذا الفَرْقِ الدقيقِ بينَ المعرفةِ الحقيقيَّةِ ومجرَّدِ التَّجْرِبَةِ، يُحكَى عن أحدِ العلماءِ الكِبارِ أنَّه كان يأخذُ عطاءَهُ فيُوَزِّعُهُ كلَّهُ على الفقراءِ وهو في طريقِه إلى البيتِ، فإذا عادَ وَجَدَ المالَ كما هو تحتَ وِسَادَتِهِ. فرآهُ ابنُ أخيهِ، ففَعَلَ مِثْلَهُ؛ وزَّعَ عطاءَهُ وعادَ فلم يَجِدْ شيئًا! فذهبَ يسألُ عَمَّهُ، فقال له الكلمةَ الفاصلةَ: “يا بُنَيَّ، أنا أصنَعُها بِيَقِينٍ، وَأَنْتَ تَصْنَعُهَا بِتَجْرِبَةٍ، واللهُ لا يُجَرَّبُ مَعَهُ!”.

فاليقينُ هو المعرفةُ التي تقتضي اللُّزومَ. “فَأَلْزَمْ” يعني: دَاوِمْ على ما أنتَ عليهِ مِنَ الطاعةِ. “فَأَلْزَمْ” يعني: جَاهِدْ نفسَكَ وهواكَ لِتَبْقَى على هذه البصيرةِ.

إنَّهُ عبدٌ قد اختصَّهُ اللهُ بالنورِ، فعليهِ أنْ يَحْفَظَ هذا النورَ بالتقوى والمُدَاوَمَةِ على العملِ الصالحِ.

فنَسْأَلُ اللهَ العظيمَ أنْ يَرْزُقَنَا قلوبًا مُنَوَّرَةً، ويقينًا صادقًا، وأنْ يُعِينَنَا على أنْ نَلْزَمَ طاعتَهُ حتى نلقاهُ وهو راضٍ عنَّا.

وباللهِ تعالى التوفيقُ.