فهْم الواقع مفتاح التجديد

بقلم : أ.د. محمد سعيد محمد الرملاوي
الأستاذ بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة

ونائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي بكندا

يُعدُّ فهم الواقع من الركائز الأساسية في عملية الاجتهاد الفقهي، إذ تتأثر الفتوى بتغير الظروف والأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها المجتمع، فلا تُصْدَر الأحكام الشرعية بمعزل عن هذا الواقع، بل تُراعى فيه مقاصد الشريعة وضرورات العصر، مما يقتضي تغير الفتوى وتكييفها بما يضمن تحقيق المصالح ودرء المفاسد.

ويُجَسِّد هذا بوضوح التحول الفقهي الذي طرأ على موقف فقهاء المذهب الحنفي في مسألة أخذ الأجرة على الأعمال التعبدية، إذ يعكس كيف يقود فهم الواقع وتطوراته إلى إعادة النظر في الأحكام الفقهية، دون الإخلال بالثوابت الشرعية.

فالمتقدمون من فقهاء الحنفية قرروا عدم جواز أخذ الأجرة على الأعمال التعبدية، كتعليم القرآن الكريم، والإمامة، والإقامة، والأذان، مستندين إلى أن العبادات محضة، لا يجوز أخذ العوض المالي عليها، لكونها مما يُبتغى به وجه الله – عز وجل -، فلا يصح أن تُقابل بمقابل مادي دنيوي.

بينما ذهب المتأخرون من فقهاء المذهب الحنفي ومعهم علماء من المذاهب الأخرى – إلى جواز أخذ الأجرة على هذه الأعمال، بل رجحوا ذلك وأكدوا استحسانه، استنادا إلى تغيُّر الواقع، وظهور ضرورات وحاجات مستجدة تستلزم إعادة النظر في الفتوى والتنزيل، دون الإخلال بالضوابط الأصولية أو مقاصد الشريعة.

وقد علل العلماء هذا التحول الفقهي من المنع إلى الجواز بأن الحكم السابق، الذي تبناه المتقدمون، إنما بُنِيَ على واقع كان فيه التطوع متاحا وميسورا؛ حيث وُجد في تلك العصور من يتفرغ لهذه الأعمال دون طلب أجر مادي.

أما في العصور المتأخرة، فقد قَلَّ المتطوعون، وبرزت حاجة ماسة إلى وجود من يتفرغ لتعليم الناس القرآن الكريم وعلوم الدين، ورعاية شؤون الشعائر الدينية، ولا يتيسر ذلك إلا بوجود أجر ومقابل مادي يُعِينُ من يقوم بهذه الأعمال على التفرغ والاستمرارية.

وبإمعان النظر فيما سبق، نجد أن الفتوى تغيّرت؛ نتيجة فهم الواقع والمستجدات، فالأقدمون افتوا بالمنع في عصرهم، بينما أفتى المتأخرون بالجواز، لمواكبة تغير الواقع ومراعاة الظروف المستجدة، دون الخروج عن إطار النصوص أو مخالفة مقاصد الشريعة، بل جاءت الفتوى محققة لها.

إن هذا التحول الذي تبناّه المتاخرون من فقهاء الحنفية ومن معهم يُعد تطبيقًا صريحا للقاعدة الفقهية الكبرى: ” لا يُنكَر تغيّر الأحكام بتغيّر الأزمنة والأحوال.”، وهو كذلك تنزيل عملي لضابط محوري في فقه التجديد، وهو: اعتبار فقه الواقع والمستجدات في الفتوى والاجتهاد، وأن التجديد لا يعني تغيّر الأحكام الشرعية الثابتة، بل يعني إعادة النظر في الفتوى وتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع الجديدة، بما يتوافق مع مقاصد الشريعة وضرورات العصر، ويُحقق المصالح المعتبرة، دون إخلال بثوابت الدين أو تجاوز للنصوص القطعية.

يقول الإمام ابن عابدين : ” كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيُّر عُرْف اهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوَّلاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف واليسر ودفع الظلم والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام.”